الـبـعـيـدون: قــراءة مــخــتــلــفــة أو درجــة الــغــفــلــة فــي الــقــراءة الجزء الثاني من الفصل الثالث

بقلم:
 
   لم تكن بيلار وغيرها ممن عبرن فراش إدريس في مدريد إلا وسيلة للانتقام من ذلك الكامن في دخيلته، القادم معه من المغرب، الذي جعله لا يمنح قلبه في صفاء وصدق لإحداهن، فاتخذ ـ كما قلنا ـ لها ضرة في السر اسمها:

   ماري كارمن

تلك السمراء ذات العيون الزرق ، المشهورة بوثوقها من جمالها حد الغرور ، والتي لم تقتصر علاقة إدريس بها على استغلال جسدها في الفراش ، بل استغلها أيضا في تنظيف بيته وترتيبه ، كما أنها أدت له دورا هاما هو حرق أعصاب بيلار بإشعال نار الغيرة فيها ، لأن [  الغيرة ـ في رأيه ـ  أنجع الطرق وأقصرها لامتحان قلب العشيق ] (ص55) . ولو كان يحب بيلار حبا صادقا لقبلنا منه على مضض هذا الامتحان ، أما وهو مجرد متلاعب بعواطفها متمتع بجسدها فهذا الامتحان الذي يعذبها به ويسيل دموعها لا يعدو أن يكون سلوكا ساديا .

    كانت بيلار قليلة الكلام، أما ماري كارمِنْ فلم تـنطق في النص بكلمة واحدة إذ بدت آلة متحركة بأمر إدريس دون أن نعرف منها سر انصياعها له.. سأله عنها خوصي عباد:
    [ من أية طينة أنت يا إدريس، ماذا فعلت ليتحول الطاووس المتعجرف المتعالي إلى أرنب في بيتك ؟ ].
   فوجد المناسبة مواتية ليرفع من شأنه وقدراته فقال مزهوا متباهيا متبجحا، بلسان (المثقف العبقري الموهوب المتمكن):
   [ أنا من طينة الرجل الأول الذي جاء فاتحا لإسبانيا، والفرق بيننا أنه كان يلهث خلفها (المرأة)، أما أنا فأجعلها تتعقبني راكضة] (ص53).
   هكذا أفرغ صاحب (البعيدون) فتح الأندلس من بُعده الجهادي / الديني / الحضاري ، وقصر مهمة الفاتح العظيم طارق بن زياد على اللهاث خلف النساء . ولا نظن أن الإسبان فكروا في تشويه الفتح العربي الإسلامي للأندلس كما فعل صاحب (البعيدون) بهذا التأويل التحريفي التافه ، ولاشك أنهم سيفرحون به أضعاف فرحهم بتسلم مفتاح غرناطة من يد أبي عبد الله الصغير قبل خمسة قرون  .

   ومع ماري كارمن ـ كما أشرنا إلى ذلك من قبل ـ كان أولئك اللواتي جعلن فراشه [ كأروقة الأمم المتحدة تعبره لهجات وجنسيات مختلفة …] ، فلما قضى منهن أوطاره لم يتردد أن يعلن في منتهى الصراحة :  [  كان تمة شيء بداخلي يحثني على الرحيل ، فمهمتي انتهت في مدريد ] (ص55)  . ولا يظنن أحد أن مهمته – باعتباره طالبا – كانت هي تحصيل العلم ؛ إن مهمته الوحيدة التي نذر لها نفسه وعقله وجسده هي البحث عن [ محطة أخرى قادمة ، لابد أن أتوقف بها ، لابد أن أروي بها ظمأي (كذا) وأشبع جوعي ثم أنتقل إلى مرتع أخصب  ] (ص61).

   فها هو في اليوم السابق لمغادرته مدريد ، يسجل على نفسه : [ دنوت من النافذة وألقيت نظرة على الشارع، خلتها نظرة وداع، لكنني لم أحس لوعة فراق أحد ] (ص36). وقد صدق، فالنرجسي بارد الشعور نحو الآخرين.

   وها هو في ذلك اليوم ذاته، بعد انتقاله صحبة خوصي عباد إلى منزل أنخِلْ دي رامونْ الذي سيرافقه في الغد إلى لندن، يرى من النافذة حدائقَ “ريتيرو”  فيسبح في خياله مستعرضا ذكريات غاية في الرومنسية مع بيلار ـ الاستلقاء على العشب، النزهة بالقارب في البحيرة … ـ ، لكنه عندما دخلت إلى الصالة مايطي أخت أنخل مع خطيبها، يفاجئنا بقوله:
   [ تعمدتُ تغيير مكاني لأكون في مواجهة شقيقة صديقي الجديد ، فقد كانت جميلة فعلا مثيرة الانتباه ، تقاطيعها متناسقة في تناغم ، شعرها ناعم ، عيناها ضاحكتان واسعتان ، وأسنانها ـ حين تضحك ـ قطع من اللؤلؤ الناصع يغري بالامتلاك].
   ولأن امتلاكها بعيد المنال، فقد أعلن حسرته عليه:
 [ لم أكن أعرف بعد أن الشاب الملتحي هو خطيبها ، لكنني بالرغم من ذلك تأسفت لعدم تعرفي عليها قبل أن يخطفها مني ذلك الخطيب].

   يقول ذلك دون مراعاة لصداقته مع أنخل، ودون اعتبار لوجوده في بيت أسرته ولارتباط أخته بخطيبها ، وقبل كل ذلك، دون حياء من ذكرى بيلار التي أخبرنا قبل سطور قليلة أنها قاهرة الظلام بداخله (ص47). كاذبا عليها وعلى نفسه وبالطبع على قراء الغفلة أيضا.

   وفي يوم الغد ..
   ها هو في محطة القطار ساعة الوداع، وهي لحظات عاطفية جدا، يؤكد لنا أن ارتباطه ببيلار إنما كان بنصفه الأسفل:
   [  لمست خصرها … فسرت في بدني رعشة شبيهة بتلك التي تنتابني كلما زارتني في غرفتي ]  (ص60) .
   يقول ذلك عنها هي التي لم تغادر فراشه إلا فجر هذا اليوم ، فيا للفحولة التي لا ترى المرأة إلا لعبة للتسلية، وإلا وجبة لسد الجوع فوق السرير. ولا يجد مواساةً لمشاعرها الحزينة على فراقه سوى أن يرد لها العبارة التي سبق لها أن قالتها له:
   [ أحبك أكثر من أمس، وأقل من غدا] ( وهي من العبارات المتداولة المستهلكة بين المراهقين مثل عبارة “الحب لا يموت” التي كانوا يكتبونها على الجدران ويختمون بها رسائلهم الغرامية إلى جانب رسم باللون الأحمر لقلب مرشوق بسهم …)
    .. وطبعا لم تكن تلك العبارة المردودة إليها سوى واحدة من أكاذيبه عليها، وهذا ما يتجلى بوضوح في قوله :
   [وكان علي أن أبدي تآلفي مع طقوس الوداع فأتظاهر بالأسى، بينما في أعماقي كنت أفيض حبورا وتوقا لاكتشاف خبايا تلك الجزيرة الضبابية التي صار (غزلانها) قاب قوسين من غنائمي]  (ص60).
   هذه هي مشاعر إدريس الحقيقية نحو بيلار. ولم ينس وهو الفارس العتيد، والبطل الصنديد في جهاد السفاح أن يكشر عن أنياب ذئبيته متمما كلامه بهذه العبارة:
   [ فهوس ارتواء جديد وحده يحرك همتي].
   وعندما تحرك القطار كان لابد أن يؤدي المشهد الأخير في مسرحية الوداع :
   [… ودوى القطار .. وتسمرت عيناي في ملامح بيلار وهي تتلاشى رويدا رويدا، إلى أن غابت إلى الأبد] (ص61).

   فهل غابت فعلا إلى الأبد؟
   الواقع أنها لم تغب كما زعم لنا ، فحضورها في ذاكرته وتواصله معها سيستمران خاصة في لحظات الفراغ الجنسي حيث تشتد أزماته.
   مع انطلاق القطار ، انطلق لسانه بسرد أحداث الرحلة التي يمكن تقسيم مسافتها إلى مرحلتين :
   الأولى : من مدريد إلى باريس.
   والثانية : من باريس إلى لندن.
   كان ذهنه مشتتا تتزاحم فيه الهواجس والأحلام حين اقتحمت القِمرةَ [ سيدة مصحوبة بحقيبتين وطفل صغير يتقدمها]، كان رفيقه الإسباني أنخل [ منهمكا في قاموسه الإسباني الإنجليزي]، أما هو فقد احتلت الوافدة الجديدة تفكيره وخياله : [  قفز انشغالي إليها ، إلى أجزائها وتفاصيلها، إلى ما يخفيه قميصها الشفاف ( كيف ذلك يا إدريس فالشفاف لا يخفي شيئا ).. قدرتُ أنها تكبرني بعشر سنوات، لكن يقيني استقرعلى أنها امرأة مشتهاة ، أغمضت عيني فتخيلت أني أنام بين أحضانها، وأداعب جسمها الوردي الشهي ](ص 62).
   ولأنه قمر المكان أينما حل وارتحل، فقد لاحظ أنها ترميه [ بنظرات قوية جسورة]. لكنها حين أشاحت بوجهها عنه غادر مقعده إلى ممر العربة الضيق مصمما على عدم الاستسلام لليأس. خاصة حين أوصلته تأملاته إلى أنه مختلف عن أنخل وخوصي عباد.  بماذا ؟.. من أراد معرفة نوع الاختلاف، فليتأمل مليا هذا الاعتراف الخطير:
   [ يقينا أنا مختلف عن أنخل ومختلف عن خوصي، شيء بداخلي أكد لي هذا في أكثر من مناسبة، نار مشتعلة في أواصري (كذا) لا أقوى على إخمادها ، صحرائي لا تروى مهما اغدودقت (كذا) … وجاءني نداء من داخلي : المرأة هي همك وهمتك في الدنيا ، هي كل ما تسعى إليه ، هي الوسيلة والغاية ] (ص64ـ65) .
   هذا ما يختلف به عن صديقيه الإسبانيين : إنه الجوع الجنسي المتوحش المستوطن في أعماق نفسه والمستولي على عقله والمتحكم في سلوكه ، والذي صار إشباعُه فضيلتَه الوحيدةَ ومفخرتَه ، وإلا .. فلماذا كتب تلك (المذكرات) ؟ ..
   فهل ظلمناه حين اعتبرناه زير نساء لا يفكر إلا بنصفه الأسفل ؟
   وقبل أن يعلن مكبر الصوت عن قرب توقف القطار دقيقة واحدة في محطة مدينة ” بورغوس ” القريبة من الحدود الفرنسية ، كان يتمعن [  قرص الشمس المنحدر فوق التلال النائية . مجرد ثوان وتغيب الشمس هناك ، وسيعم الظلام هذا الكون . لكن كونا آخر في مكان قصي سيضاء ] . ولا بأس أن يرى انحدار قرص الشمس خلف الأفق انتقالا إلى (كون آخر) ، فهو (مثقف موهوب) كما وصفه الراوي ، وإن كان لا يعرف حدود بعض الكلمات ، ولا يعي وعيا تاما معانيها ، وبالتالي لا يحسن تركيبها في جمل . ولذا لا بأس أيضا أن يتحف قراء الغفلة بقوله : [رفعت رأسي إلى النافذة ، غريب أمر الشمس ، لقد طال احمرارها في كبد السماء بالرغم من مغيبها ]  (ص65) . لا بأس أن تنحدر الشمس وراء الأفق وهي في كبد السماء !! ، [ فهذا –  كما قال عنه الراوي –  هو إدريس يطلق العنان لتخيلاته فيحلق في سماء لا أرض له ] (ص20) . أما نحن فوجدناه يطلق العنان للسانه فيتعسف على اللغة العربية كما يشاء .
   توقف القطار في ” بورغوس ” ، ومن نافذة الممر الضيق رأى صديقه أنخل يخطو نحو قاعة الاستقبال ، مرت الدقيقة ، وتحرك القطار .. وبعد مدة من الذعر وصل أنخل ليعلن أنه [ تسلق آخر سلم في القطار ] (ص66) ، فكان نزوله منه نقمة انطوت بالنسبة لإدريس على نعمة خروج السيدة الفرنسية عن صمتها . برر أنخل نزوله برغبته في شراء صحف المساء وبعض الحلوى للطفل الجميل ابن الفرنسية . وأضاف : [  لم أكن أتوقع أن القطار سيتوقف (لـ) دقيقة واحدة فقط ، ذلك أنهم يقولون دقيقة بينما هو يتوقف ربع ساعة]. وبهذا يكون صاحب (البعيدون) قد أوقع نفسه في زلة حكائية جديدة ، إذ كيف عرف أنخل أنهم يقولون دقيقة واحدة بينما القطار يتوقف ربع ساعة ؟ أليس هذا أولَ سفر له في حياته ؟ ألم تقل والدته بالأمس وهي توصي إدريس به : [  أنبهك إلى أن أنخل كثير السهو والشرود ، فلم يسبق أن غادر مدريد ولا اشتغل بغير دروسه؟ ] . ألم يصدق قولها بقوله : [  أوه ، بم تلغطين يا أماه ، كل مخلوق لابد أن يسافر يوما وأن يعمل لأول مرة ] (ص50). لا بأس كذلك في هذه الزلة، ولن نطالب صاحب (البعيدون) بتبريرها . فنحن مَن قبلنا عن طواعية السير معه في هذا الطريق المليء بالزلات المسلية.
   سنسلم تجاوزا أن إدريس كان يملك من اللغة الفرنسية ما يمكِّنه من محاورة إيلين الفرنسية العائدة صحبة ابنها من ماربيا جنوب إسبانيا إلى باريس حيث تعمل ممرضة .. وسنسلم أيضا أن إدريس – الطالب ، يتيم الأب ، الذي يعيش على منحة مغربية هزيلة ضئيلة –  قد تحمل صفعة فاتورة ( العشاء المخملي ) التي ألغت من عروقه نشوة النبيذ .. وسنسلم كذلك بعبارة (العشاء المخملي) باعتبارها تعسفا عاديا من إدريس على اللغة . لكن كيف يمكننا التسليم بمرافقة إدريس لإيلين إلى شقتها بعد وصول القطار إلى محطة أوسترلتس في باريس ؟ .. فمتى كانت استضافة الأجانب الغرباء من أخلاق الفرنسيين ؟ وحتى لو كانت إيلين عاهرة محترفة ، فهي ما كانت لترضى أن يرافقها وهي مع ابنها إلى مسكنها زبون عابر التقت به صدفة في القطارليقضي منها وطره صباحا بعد سفر بالقطار مُضْنٍ مرهقٍ من ماربيا إلى باريس استغرق يومين تقريبا. هذا إذا سلمنا أن سهرة إدريس في الليلة الأسبق مع بيلار التي امتدت إلى مطلع الفجر إنما كانت مخصصة لدراسة مزايا التبتل والرهبانية، وأنه طيلة الليل لم يلمس منها شعرة ولا ظُفرا.
 (يتبع)

اترك رد