الفراسة: الكتاب المفتوح الذي لا نقرؤه

بقلم: د. جلال مودن

الانسان كتب مفتوح قليلا ما نتوقف لقرأته، أو نمعن النظر في تفاصيله وتجاعيده وشكل أحرف وجهه،و قديما قيل الوجه مرآة الداخل، من خلاله يمكن النفاذ إلى أعماقه ومعرفة أسراره و قراءة أفكاره وهواجسه،ليس كهانة أو رجما بالغيب، بل عن طريق علم الفراسة، وهو من العلوم التي اندرست مع الزمن وكادت تنطفىء شمعتها.

و نقصد بالفراسة, الاستدلال على الباطن من خلال الظاهر، أي معرفة الشخصية من خلال قراءة ملامح الوجه وأشكال أعضاءه كالعينين والجبهة والأنف….

يوجد في ثراتنا الاسلامي فراسة ربانية و فراسة مكتسبة ،الأولى يمكن أن تسمى بالبصيرة أو الفتح الذي يهبه الله لأصحاب الرياضات والعبادات ،فهي إذن فراسة خاصة و في هذا المعنى يدخل قوله تعالى :(إن في ذلك لآيات لمتوسمين )و جاء في الأثر: “اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله”. فهي نور يقذفه الله في القلوب يزيل حجب ظلمات الاجساد .

أما الفراسة التي نتحدث عنها فهي الفراسة المكتسبة التي يمكن تعلمها و التمرن عليها لضبط مهاراتها،و هي التي شد الامام الشافعي الرحال لتعلمها في اليمن ،و كانت من العلوم المعروفة عند العرب  قبل الاسلام وبعده ،ومازالت بعض القبائل العربية على علم و دراية بذلك إلى الآن.وكانت عندهم على أنواع منها:

-القيافة :وهي معرفة الناس بالنظر إلى شكل وجوههم وأعضاءهم وكانت تستعمل لنسبة الأطفال لأبائهم عند الاختلاف مع الام في ذلك.

-فراسة الريافة: و هي معرفة مصادر المياه من خلال التربة و الرائحة و النباتات…..

-فراسة الأثر و هي التمكن من تتبع آثار الأقدام و حوافر الخيل و الإبل في الأرض.

أما في عصرنا الحالي فيوجد:- فراسة الوجوه (علم الفيسيونومي)

– فراسة  قراءة لغة الجسد والإيماءات والحركات و يدخل فيه فراسة الإحساس والنبرات والهيئات والمظهر والوضعيات.
-فراسة الألوان (سيكولوجية الألوان)

– فراسة خط اليد (علوم الجرافولوجي)
-الفراسة المتخصصة يكتسبها الشخص مع الخبرة والتجربة والدراسة في مجاله كالطبيب والمهندس و بائع السيارات و بائع الذهب والألماس، بائع العطور .

يعتبر الفيلسوف اليوناني ارسطو اول من كتب كتابا في علم الفيسيونومي  ، فذكر ان للإنسان سمات في وجهه تدل على الصفات المختلفة كالشجاعة و القوة و الجبن و الغباء . . الخ ، و ربط ارسطو بين شكل اوجه الحيوانات و وجه الإنسان ، حيث انه من قارب وجهه وجهاً لأحد الحيوانات فإنه (حسب نظرية ارسطو) يتصف بصفات هذا الحيوان كشجاعة الأسد و قوة الثور و مكر الثعلب و هكذا ، و قد انتشرت هذه النظرية في اوروبا و ترجمت لعدة لغات و كانت اساساً لعدة نظريات و دراسات بعدها في هذا العلم.

نقل العرب المسلمون علم الفراسة  لاحقاً عن اليونان ، و استفادوا من نظريات ارسطو و أبوقراط ، و الًفوا كتبا مستقلة اصبحت فيما بعد مراجع لعلماء أوروبا في القرون المظلمة الوسطى ، ومن اشهر هؤلاء العلماء العرب :

  • الإمام فخر الدين الرازي (1190 م) –  كتب كتابا عنوانه “كتابالفراسة”
  • الإمام إبن القيم الجوزية  (1320 م) –  كتب كتابا عنوانه “الفراسة”
  • شمس الدين محمد بن ابي طالب ساري (1360 م) –  كتب كتابا عنوانه “السياسة في علمالفراسة”
  • العارف بالله زين العابدين محمد العمري المرصفي  – كتب كتابا عنوانه  “البهجة الإنسية فيالفراسة الإنسانية”

و مع اقتراب القرن الثامن عشر من نهايته قام النمساوي جون كاسبر لافاتر بعمل بحث مطول عن العلاقة بين ملامح الوجه و القدرات العقلية و الميول الطبيعية للإنسان ،ثم أصدر كتاباً عام (1775 م) بعنوان Essays on Physiognomy  ضمنه باكورة بحثه، و يعتبر جون كاسبر لافاتر هو ابو علم الفيسيونومي الحديث.

وفي بداية القرن التاسع عشر ، قدم العالم فرانز جوزيف جول نظريته عن امكانية معرفة الشخصية من خلال شكل و محيط الجمجمة، حيث أن شكل الجمجمة يدل على شكل المخ بداخلها ، فأشار جال الى 27 موضعا في الجمجمة ووضح ان هذه المواضع من المخ تعكس سلوكيات وشخصية الفرد، فقسم الرأس الى عدة مواضع كلٌ منها مختص بمَلكة فكرية معينة، و قد كانت هذه النظرية مبنية على العديد من الأدلة المادية والملاحظات الشخصية، ولاقت نجاحا و قبولاً كبيرين ، ثم اكمل عمله من بعده جون جاسبر سبورزيم الذي عكف على دراسة نظرية جول وطورها وجعلها علما مستقلا اسماه الفرينولوجي Phrenology او علم فراسة الدماغ،

في عشرينيات القرن العشرين، تم وضع اللبنات العلمية لقراءة الوجه والرأس على اساس علميّ الفيسيونومي والفرينولوجي واسموه علم الكاراكترولجي Characterology  على اسس علميه و تشريحية و نفسية، ومن اشهر من كتب في هذا العلم :

  • ماري اولمستاد ستانتون – كتبت  كتابا عنوانه The Encyclopedia Of Face And Form Reading
  • ليندر هاملتون ماكورمك – كتب كتابا عنوانه Characterology An Exact Science
  • كاثرين بلاكفورد – كتبت كتابا عنوانه Analyzing Character  و قد جمع هذا الكتاب افضل ما فيالفيسيونومي و الفرينولوجي معاً.

في اربعينيات القرن العشرين قدم عالم النفس ويليام شيلدون نظريته عن علاقة البنية الجسدية بشخصية الإنسان، حيث عكف على دراسة العلاقة بين ثلاثة انواع من البنى الجسدية وهي البنية النحيلة و العضلية و البدينة ، و وضح ان لكل منهم سمات مختلفة في الشخصية.

في ثلاثينيات القرن العشرين ، أخذ قاضي لوس انجلوس إدوارد جونز يلاحظ سلوك الأفراد الذين مثلوا أمامه في المحكمة ويقارن بين الملامح الوجهية والجسدية وبين شخصية الفرد ، و زاد إعجابه بهذه الملاحظات حتى ترك عمله و تفرغ للبحث في هذا المجال مستعيناً بالفيسيونومي والفرينولوجي ، ويعتبر جونز هو مؤسس احدث اتجاه أو مدرسة في علم قراءة الوجه ، ثم اكمل روبرت وايت سايد ما بدأه جونز وأضاف اليه ونقحه، وقام بعمل بحث ميداني وكانت النتيجة أن نسبة الدقة وصلت 92% ، ومنذ عصر وايت سايد و حتى وقتنا هذا و العديد ممن يخضعون لعملية تقييم سماتهم الشخصية عن طريق قراءة الوجه يدللون على صحة هذا العلم.

و في متناولنا الآن العديد من الكتب عن قراءة الوجه في أوروبا و أمريكا قائم على أساس الفيسيونومي و البرسونولوجي و الفرينولوجي و ايضا علم قراءة الوجه الصيني ميان شيانج.

و يعد كل من المهندس يزن مروان حسين والدكتور عصام السلوادي من أبرز مؤسسي الفراسة بالوطن العربي ببحث استمر لمدة 11 عشر عاما، و كان من ثمرته رسالة دكتوراه عصام السلوادي بالأردن.

وتعد لغة الجسد الآن أحد أهم مكونات الادارة و التسير و التواصل الفعال،و فن المبيعات و التسويق، و يزداد الاهتمام بها أكثر في المجال السياسي و صناعة القادة بحيث يخضع الزعماء اليوم لدورات تكوينية لتقوية الكريزما و حضور الشخصية و فن الاقناع باستعمال تقنيات لغة الجسد.

لازال استثمار علم الفراسة اشراكه في قراءة الأحداث والشخصيات على المستوى الاعلامي ضعيف إن لم يكن منعدما ،إذ لازالت القراءة السطحية الوصفية هي الطاغية، في حين الآن في أوروبا و أمريكا خطابات الزعماء و الرؤساء تقرأ من خلال لغة الجسد و إيماءات العين و تعابير الوجه التي تستبطن الكثير من الإشارات والأخبار والمعلومات التي لا تقرأ في الكلمات، فمثلا الآن خبراء الفراسة الأمريكين يحصون على ترامب آلاف الكذبات على الهواء من خلال خطاباته.

ولا يفوتني التنبيه إلى أن الحكومة الأمريكية تعتمد بشكل كبير على علم الفراسة لكشف الكذب أثناء التحقيق وترقب التدخلات العاجلة في حراسة الشخصيات وتدبير الأزمات. ويرجع الفضل إلى بول هيكمان صاحب كتاب أطلس المشاعر وهو أحد نوابغ قراءة ملامح الوجه، وقد عمل على تطوير كفاءة المحققين الفيدراليين في كشف الكذب من خلال تعابير الوجه ويعمل الآن مستشارا عند العديد من شركات التسويق.

علم الفراسة علم واعد أرجو أن تتاح الفرصة للتعريف به و تقريبه للناس واستثماره في مختلف مجالات الحياة وعلى رأسها تحليل الشخصيات العامة والأحداث المرتبطة بهم، والمجال التربوي و إدارة الأعمال والعلاقات الزوجية.

اترك رد