حقيقة مراجعات السلفية الجهادية

بقللم: الحسن أشهبار

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد؛

أود في بداية هذا المقال أن أنبه إلى الأمور التالية:

أولا: مصطلح (السلفية الجهادية) استعملته الجرائد الوطنية ووسائل الإعلام السمعية والبصرية، وأما المشايخ والإخوة فمنهم من يقبله ولا يرى فيه بأسا، ومنهم من يرفضه، وإنما استعملته هنا لأن الطائفة التي نتحدث عنها اشتهرت به، ولا يعني ذلك أنني أقر هذا الاسم.

ثانيا: الهدف من هذا المقال خصوصا والمقالات التي سبقت أو ستأتي في إطار هذه السلسة هو النصح للشباب الناشئ والأجيال القادمة حتى لا يكرروا الأخطاء التي وقع فيها من سبقهم،
ويشهد الله تعالى أنني لا أقصد من وراء هذه الوقفات إلا بيان بعض الحقائق التي أغفلها من تحدثوا عن المراجعات داخل التيار السلفي الجهادي بالمغرب، والتي أرى أنه كان يجب ذكرها ليتحمل الكل مسؤوليته الكاملة أمام الله ثم أمام الناس؛ خصوصا وأن هذه السلسلة تؤرخ لمرحلة حرجة من تاريخ الحركة الإسلامية بالمغرب، ولكن لاحظت أن بعض من تكلم قد أبهم الكلام في بعض المواطن التي تحتاج إلى التدقيق والتفصيل، كما أنه نسب الشر كله للأتباع والأصحاب الذين مارسوا عليه الإكراه والإرهاب، بالإضافة إلى التمويه في بعض الأحداث والتهويل من بعضها الآخر.. فوجب وضع النقط على الحروف كما يقال ليتحمل كل واحد مسؤوليته وليسهل إصلاح هذه الأخطاء.

ثالثا: منهجي في هذه السلسلة هو ذكر ما عشته بنفسي وما شاهدته بعيني، ولا ألتفت للروايات التي رواها لي الآخرون، لأنني أعتبر هذه السلسلة شهادة تاريخية، والله عز وجل يقول: (وما شهدنا إلا بما علمنا)، وأترك أيضا لمن عاش هذه التجربة فرصة التعقيب على هذه المقالات ما دام القصد هو ذكر ما وقع من أخطاء في هذه التجربة لتستفيد منها الأجيال الصاعدة.. وأشدد على ضرورة احترام آداب الحوار والالتزام بضوابطه ومقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل..

رابعا: عندما أتحدث عن الأخطاء التي ارتكبت من طرف بعض مشايخ وأفراد السلفية الجهادية بالمغرب؛ فإنني لا أقر أبدا بالظلم الكبير الذي تعرض له أفراد هذا التيار بعد أحداث 16 ماي الإجرامية، وإنما أصرح بأن هذه الأخطاء أكثرها لا يعتبر جريمة ولا يعاقب عليه القانون الجنائي، وإنما تدخل في باب الأفكار التي لا تصح مواجهتها إلا بالفكر والحوار، وبعضها قد يكون جريمة لكن عقوبتها أخف بكثير مما صدر في حق المعتقلين، ويشهد لذلك أن المحاكمات المارطونية كانت صورية فقط وجرت في وقت وجيز، وأقرت أعلى سلطة في البلاد بوجود خروقات قانونية فيها.. ولذلك أُشهد الله أن أكبر ضحية لهذه الأحداث الإرهابية هم أولئك المعتقلون الذين لا زالوا وراء القضبان، وأبناؤهم الذين حرموا العطف والحنان والرعاية المادية والمعنوية بلا جُرم اقترفته أيديهم.

بعد هذه التنبيهات أنتقل بكم إلى الملاحظات التي سجلتها على التيار السلفي الجهادي بالمغرب، وقد جمعتها في عدة مسائل، وإليكم بيانها:

المسألة الأولى: مسألة الغلو في التكفير والتفسيق والتبديع:

أذكر أننا مرة كنا في سفر من أجل التخييم بمنطقة ساحلية، وكنا خمسة عشر شابا وعلى رأسنا الشيخ أبو حفص، فنزلنا في منطقة جبلية للراحة والتمتع بمناظرها الخلابة، وبينما نحن وقوف نستمتع بجمالية المكان، ونتناول بعض الطعام؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الوجه، وكأن النور ينبعث منه، وكان شعره الأشقر يلمع تحت أشعة الشمس الذهبية لشدة ما بينه وبينها من تشابه؛ فظن صاحبنا –أبو حفص- أنه نصراني، فنظر إلينا وهو يقهقه عاليا بقهقهاته المعهودة التي لا تتوقف إلا بدموع الضحك، وقال: (شُوفُو ها واحد الكافر !!).. فقهقه معظمنا وزجره بعضنا ممن كان شديد الصلة به حينها وكان يجرؤ على اعتراضه.. ولكن المفاجأة كانت صادمة عندما وصل إلينا هذا الرجل الأشقر وقال لنا بصوت هادئ ولغة عربية فصيحة (السلام عليكم) !! فما كان من صاحبنا إلا أن قهقه من جديد وقال (صْدَقْ مسلم)..

هذه صورة من صور الغلو في التكفير الذي كان منتشرا في صفوف الشباب، وكانت تتغذى مما يقوله بعض المشايخ الذين كانوا يتحدثون في مسائل الإيمان والكفر أمام عوام الناس؛ وإذا كان بعض طلبة العلم يُميزون بين الحكم المطلق والحكم على المعين التي كان يُدندن حولها أولئك الشيوخ، فإن أغلب الشباب لا يفقهون هذه المسألة بشروطها وموانعها، مما جعلهم يُنزلون هذه الأحكام المطلقة على أعيان الناس.. ومن أمثلة ذلك مسألة كفر تارك الصلاة، فقد كنا نرى كفر تارك الصلاة تهاونا وكسلا خلافا لجمهور العلماء، وليت الأمر وقف عند هذا الحد؛ بل تعداه إلى تنزيله على أرض الواقع، فكان منا من يكفر أباه أو أمه أو أخاه أو أخته لأنه لا يُصلي، ونتج عن ذلك أن بعض الشباب تركوا بيوت آبائهم وأمهاتهم، لأنه لا يجوز البقاء مع الكافر ولا مشاركته في الأكل، وإذا مات لا يُغسل ولا يُكفن ولا يصلى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين.. ولا تسل عن المشاكل العائلية التي كانت تنتج عن مثل هذه التصرفات.. ولو أن هؤلاء الشباب وجدوا من يُوجههم إلى الطريقة الصحيحة التي تؤثر في الناس وتأخذ بأيديهم من ظلمات الغواية والعصيان إلى نور الهداية والإيمان لكان خيرا لهم..

ومن قصص الغلو العجيبة التي كادت تضع حدا لحياتي، ما حدث لي من طرف بعض زملائي عندما كنا ندرس في الجامعة ونسكن بالحي الجامعي.. فقد أصر زميل لي في إحدى الليالي أن يصحبني إلى  منزلي بفاس، وهو منزل بعيد عن الحي الجامعي؛ إذ يلزمك أن تركب حافلتين متتاليتين لتصل إليه، هذا المنزل كان والدي قد اشتراه لما كنت بالمرحلة الثانوية، وكنت أذهب إليه في نهاية الأسبوع وأيام العطل عندما كانت الداخلية تُغلق أبوابها، وأمكث هناك إلى أن أنهي أشغالي ثم أغادر إلى البادية حيث منزل والدي، وقد كنت أتجنب استصحاب أي شخص معي لهذا المنزل لأنه لا يوجد به إلا ما يكفي شخصا واحدا من الفراش والغطاء.. وعندما أصر صاحبي على مرافقتي في تلك الليلة بطريقة عجيبة وافقت على ذلك وحملته مسؤولية المبيت دون غطاء؛ فقبل دون تردد، ومع أنني عجبت لإصراره هذا إلا أنه لم يدر بذهني ما كان يُخطط له.. لقد أخبره أحدهم أنني أعمل مُخبرا لصالح السلطات، وأنني متزوج وأسكن بمدينة فاس وليس بالبادية كما أدعي، وعندما سأل مجموعة من الطلبة بالكلية أكدوا له أنه يوجد رجل أمن بلباس مدني يحمل نفس اسمي يعمل بالكلية.. لم يستسغ صاحبي هذا الأمر، وكيف أخفيت عليهم هذه المعلومات، ولماذا أقطن معهم بالحي الجامعي، وأذهب في نهاية كل أسبوع إلى زيارة أهلي وأبنائي؟ أليس ذلك دليلا على تجسسي عليهم ونقل أخبارهم إلى السلطات؟ كل هذا جعل صاحبي يشدد المراقبة علي، ومن حُسن حظي أنه لم يكتشف شيئا يُدينني؛ فبقي له أن يذهب معي إلى منزلي بفاس ليتأكد بنفسه أنني غير متزوج، وعندما ولج معي البيت على حين غفلة ووجد الأمر كما كنت أحدثهم، منزل مهجور ليس به إلا حصير وفراش قديم ومكتبة متواضعة، بقي شاردا ومترددا وحائرا.. هل يُخبرني بقصده من هذه الزيارة أم يكتمه في نفسه؟ وبينما هو على حالته تلك فاجأته بقولي: إنني أفكر في الاستعانة بعم لي يعمل بالكلية لحل المشكل الإداري الذي حدث لي الأسبوع الماضي.. فكأنني نزعته من حيرته وتردده؛ فأقبل علي يسألني بتلهف: هل لك عم يعمل بالكلية؟ وما اسمه؟ هل هو متزوج؟ هل له أبناء؟ وكم تهلل وجهه عندما أخبرته بأن لي عما يحمل نفس اسمي الشخصي والعائلي يعمل في جهاز الأمن، وقد التقيته عدة مرات بالكلية، وقال لي لا تتردد في طلب مساعدتي متى احتجت لذلك.. وحينها أخبرني بالحقيقة وأنه كان يُخطط لتصفيتي جسديا لو اكتشف أنني كنت كاذبا فيما أدعيه !!

إن هذه الحادثة تبين لنا درجة الغلو التي وصل إليها بعض أفراد السلفية الجهادية في مسائل التكفير، وإذا كان هذا حال طالب جامعي يدرس الشريعة الإسلامية فكيف سيكون الأمر بالنسبة لغيره من الأميين وعوام الناس.. وما ذكرته في مسألة التكفير ينطبق أيضا على التفسيق والتبديع، وقد شهدت النقاشات الحادة التي كانت تدور رحاها عند أبواب المساجد بين الإخوة في مسألة ترك الصلاة خلف الأئمة المبتدعين، وسبب بدعتهم هو قراءتهم للقرآن جماعة، وقنوتهم في صلاة الوتر، وقراءتهم للقرآن في المقابر، وحضورهم في المواسم الشركية التي تُقام بالأضرحة.. وقد نتج عن هذا هجر المساجد العامة وتعويضها بالصلاة في بعض المساجد الصغيرة التي كانت توجد بأسواق الأحياء الشعبية، أو إقامة جماعة ثانية بعد انتهاء الإمام من صلاة الجماعة الأولى.

ومن المسائل التي وقع فيها غلو كبير والمرتبطة بالتكفير والتبديع مسألة الموقف من المخالف، وخصوصا الحركات الإسلامية العاملة بالساحة المغربية، والواقع يشهد أن الشيخ أبا حفص بمجرد أن وضع قدمه بفاس والتف حوله الناس شن حرباً على الحركات الإسلامية المخالفة وفي مقدمتها حزب العدالة والتنمية بسبب مشاركتهم في الانتخابات الديمقراطية.. وهكذا ألقى الشيخ عدة دروس عن الديمقراطية والمشاركة في الانتخابات التشريعية، ومن هذه الدروس درس بعنوان (ألا له الخلق والأمر) ألقاه بمقر جمعية أسد الله حمزة بحي بنسليمان سنة 2002م، وكان الدرس عبارة عن هجوم عنيف على المشاركة السياسية عموما وعلى حزب العدالة والتنمية خصوصا؛ مذكرا في درسه بأن الله تعالى كما أنه هو الخالق الرازق فيجب أن يكون هو وحده الآمر والناهي، وأن الآمر والناهي في الانتخابات التشريعية الديمقراطية هو الشعب الذي يشرع من دون الله تعالى.. وقد وصل الأمر بسبب موقف الشيخ المتشدد في هذه المسألة إلى حدوث مشادات كلامية بحي اعوينات الحجاج بين بعض أتباع الشيخ وبين بعض الإخوة من حركة التوحيد والإصلاح الذين قاموا بمنعه من إلقاء درسه بأحد المساجد هناك.. ومما أعجب له أن الشيخ رفيقي أبو حفص يصرح الآن في ورقته المقدمة لمؤتمر(ما بعد داعش: التحديات المستقبلية في مواجهة التطرف والتطرف العنيف) الذي نظم بمراكش يومي 6 و7 أبريل 2018م، يُصرح دون خجل ولا وجل قائلا: “وقد ظهر أثر هذ الخلاف خلال الانتخابات التشريعية لعام 2002، حيث دعا الكتاني ورفيقي للمشاركة في الانتخابات، والتصويت لصالح حزب العدالة والتنمية[1]، فيما عارض الفزازي والحدوشي أي مشاركة، ولو كانت بالتصويت على الحزب الإسلامي، معتبرين ذلك من الشرك، وقد أصدر حينها الفزازي كتابه : (لماذا لا نشارك في الانتخابات الديمقراطية؟)” !! وهذا تدليس قبيح من أبي حفص؛ لأن الشيخ لم يبدأ في تغيير موقفه من الانتخابات الديمقراطية والجماعات والأحزاب الإسلامية إلا بعد لقائه بالشيخ الكتاني حيث تأثر بفكره ومنهجه وحتى بطريقة لباسه، فأصبح يُقلده في لبس السلهام المغربي ووضع العمامة.. وقد صرح لنا أبو حفص بنفسه مرارا حينها أنه معجب بالشيخ الكتاني الذي جمع الله له بين جمال الصورة وشرف النسب وزاده بسطة في العلم والجسم.. ونظرا لهذا التأثر الكبير بالشيخ الكتاني يمكننا أن نميز بين مرحلتين من دعوة أبي حفص بمدينة فاس، المرحلة الأولى تبتدئ من مجيئه إلى فاس بداية سنة 2000م وتنتهي عند لقائه بالشيخ الكتاني نهاية سنة 2002م، وقد تميزت هذه المرحلة بعنف الخطاب والهجوم على الحركات والجماعات الإسلامية، والمرحلة الثانية تبتدئ من حين لقائه بالشيخ الكتاني إلى وقت الاعتقال الثاني قبيل أحداث 16 ماي 2003م، وقد تميزت هذه المرحلة ببداية تحول فكر أبي حفص من الغلو والتشدد إلى نوع من الوسطية والاعتدال، ودليل ذلك أن المقال الذي كتبه أبو حفص باسم مستعار (أبو أسامة المغربي) يرد فيه على موقف الفزازي من الانتخابات لم يكتبه إلا في بداية سنة 2003م، والانتخابات التشريعية كانت سنة 2002م؟؟ ولست أدري لم يُصر أبو حفص على الكذب والمراوغة في كل حديث له عن المراجعات، هل يخجل من ذكر ماضيه؟ أم هل يظن أن تدليساته ستنطلي على الناس؟ ألا يعلم أن الكذب لا ينفعه في مسائل شهدها آلاف الخلق الذين لا زالوا أحياء؟ 

ولقد صرح  أيضا في ورقته تلك قائلا: ” كما كان الفرق واضحا من خلال الموقف من حركات الإسلام السياسي، حيث كان الكتاني ورفيقي يتمتعان بعلاقة طيبة مع هذه الأطراف، فيما كان موقف الآخرين حادا يصل أحيانا لحد التكفير”.. إن هذا الكلام لا يصح إطلاقه حتى لا يتوهم القارئ أن أبا حفص كان على هذا المنهج منذ البداية، وإنما يجب تقييده بزمان تغيره، وقد حدث ذلك عند تكرر لقاءاته بالشيخ الكتاني أواخر سنة 2002م.. وما يضيره لو أنه امتلك الشجاعة وصرح بالحقيقة كما هي ليتحمل كل واحد مسؤوليته الكاملة، وليصح حديثه عن المراجعات.. وإنني لا زلت أذكر عندما اجتمعنا بالشيخ أبي حفص بأحد المنازل بحي بنسودة وكنا مجموعة من الطلبة، وكان اللقاء مخصصا للحديث عن تأسيس فصيل طلابي بالجامعة يحمل اسم (الوعي الإسلامي السلفي)؛ أذكر أن الشيخ كلف في ذلك اللقاء كل واحد أو اثنين بإعداد بحث شامل عن كل حركة من الحركات الموجودة بالساحة الجامعية، وكُلفت أنا شخصيا بإعداد بحث عن حركة العدل والإحسان لأنني كنت قد أمضيت معهم سنة كاملة بالحي الجامعي، وكنت مطلعا على كتابات الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله..

والشاهد من هذا كله أن أبا حفص كرس ما كان عليه الإخوة آنذاك من اعتبار أن ماهم عليه هو المنهج الصحيح وأن كل من خالفه فهو على باطل، كما شجع على إذكاء الصراع مع الحركات الإسلامية المخالفة.. ولم يتراجع عن هذا الأمر إلا بعد احتكاكه كثيرا بالشيخ الكتاني وتأثره بمنهجه وطريقته.

المسألة الثانية: مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قبل مجيء أبي حفص إلى فاس كانت مسألة تغيير المنكر باليد منتشرة عند فئة من الشباب، وكان يُعارض هذه المسألة كل الدعاة الذين يُحسبون على (السلفية الجهادية)، ومن هؤلاء الدعاة الشيخ محمد الرميش والشيخ عبد العزيز لحمامصي والشيخ محمد بالحبيب، و بعد استقرار الشيخ بمدينة فاس تطورت هذه المسألة تطورا خطيرا بسبب مساندته القوية لوجوب تغيير المنكر باليد؛ فما أن استقر الشيخ والتف حوله الشباب حتى بدأ في إلقاء مجموعة من الدروس التي تؤصل لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ومن هذه الدروس درس بعنوان (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وآخر شرح فيه حديث السفينة ألقاه بجمعية أسد الله حمزة بحي بنسليمان؛ حيث بين من خلال هذا الحديث وجوب الأخذ على يد المفسد حتى لا يعم البلاء وتغرق السفينة.. وقد تأثر الشباب بكلامه غاية التأثر، ووافق ذلك هواهم ومبتغاهم، وتمردوا على شيوخهم التقليديين بعدما وجدوا بُغيتهم عند الشيخ الشاب..

وهكذا تطورت عمليات النهي عن المنكر باليد في الشارع العام، وأخذت أبعادا خطيرة جدا؛ خصوصا بأحياء لابيطا ظهر الخميس. وانضم إلى قافلة الشباب الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر مجموعة من الفتيان الذين لا تتجاوز أعمارهم ثلاث عشرة سنة، والذين كونوا مجموعات خاصة بهم؛ فكانوا يخرجون للشارع العام فإذا وجدوا فتاة متبرجة رموها بالحجارة عن بعد بواسطة ما يسمى (الجباد)، أو رشوها بالماء القاطع؛ بل وصل الأمر ببعض هؤلاء الفتية أن أحدهم كان يرمي بجهاز التلفاز من نافذة بيتهم بدعوى أن أمه وأخواته يستعملونه في مشاهدة المنكرات، وهذا كله بفضل فتاوى الشيخ في هذا الباب دون مراعاة للمصالح والمفاسد، ودون مراعاة للضوابط الشرعية؛ فنتج عن ذلك مفاسد كبيرة تتجاوز أحيانا المنكر الذي كانت تنهى عنه.. فقد عرفت مجموعة من الشباب والفتيان كانوا يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشوارع فاس وبالأماكن العامة، وكان بعضهم يقوم بسرقة أموال من يجدونه في وضعيات لا أخلاقية، كما يسرقون ذهب الفيتات اللاتي يعاكسن الأولاد في الخلوات والأماكن المشبوهة بدعوى أن هؤلاء يستعملن هذا المال في الحرام، فيؤخذ منهم حتى لا يستعينوا به على معصية الله تعالى !!

لقد كانت عمليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتم تحت أعين رجال السلطة؛ بل وفي كثير من الأحيان بإذنهم وبتنسيق معهم؛ فكانوا حينما يعجزون عن الإمساك بمجرم خطير يستعينون ببعض الإخوة الذين كانوا لا يترددون في مد يد المساعدة للسلطات الأمنية في هذا الباب، ثم شُكلت بعد ذلك بمباركة من السلطات المحلية وداديات الأحياء، فأصبح لكل حي ودادية خاصة به، وكان من مهام هذه الوداديات حفظ الأمن داخل الحي ليلا ونهارا، وهكذا شكلت كل ودادية مجموعات من الشباب الأقوياء الذين يتناوبون على حفظ أمن الحي وحراسته كل ليلة مقابل مبلغ شهري يتراوح بين 1000 و1200 درهم في الشهر، ويُجمع هذا المبلغ من طرف سكان الحي الذين كانوا يدفعون مبلغ 20 درهم للأسرة الواحدة، وقد لقيت هذه المبادرة ترحيبا كبيرا من طرف الجميع ونعمت تلك الأحياء بأمن وسلام لا عهد لها به، وأصبحت المرأة تسير ليلا إلى حيث تشاء لا تخاف على نفسها ذئبا ولا خنزيرا ولا مجرما ولا صعلوكا، وكان أفراد مجموعة الحراسة في غاية الأدب وقمة الأخلاق، أذلة على الضعفاء والمساكين أعزة على المعتدين والمجرمين، يُسارعون في مساعدة الناس وقضاء حوائجهم؛ فكسبوا بذلك قلوب الجميع، ولم يرق هذا الوضع صنفا واحدا من الناس، وهم المجرمون المروجون للخمور والمخدرات؛ فقد كانوا هم أكبر ضحية لهذا التوافق والتعاون الحاصل بين الإخوة والسلطات الأمنية، وضُيق الخناق عليهم، فدخل كثير منهم في دين السلفية الجهادية، وأعلنوا توبتهم، وغيروا ملابسهم، وأطلقوا لحاهم، وصرنا أمام نوع جديد من الشباب، يمكن أن نسميهم (حديثو عهد بالالتزام)، أفلحنا في تغيير ظاهرهم ولما يدخل التغيير قلوبهم، شباب ملتزم ظاهريا ومنتكس باطنيا، شباب فاشل في دراسته وفي علاقاته مع أهله وأقربائه، إن هؤلاء (الملتزمون الجدد) كان لهم أثر سيء جدا في انحراف مسيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن مسارها الذي بدأت به على يد جيل من الإخوة العقلاء والحكماء، وأصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة للتسلية والتكسب بالنسبة لشباب تائه ضائع، تغذيه فتاوى ودروس أبي حفص الذي كانوا يحرصون كل الحرص على حضور دروسه بكل من سيدي بوجيدة ولابيطا الدكارات، هذه الدروس التي تحولت فجأة من دروس تعليم الطهارة والصلاة إلى الحديث عن الجهاد في سبيل الله كما سيأتي بيان ذلك في موضعه من هذه السلسلة، وهكذا أصبح هؤلاء الشباب الجدد يعتبرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بابا عظيما من أبواب الجهاد في سبيل الله تعالى، مما خلف استياء كبيرا عند كثير من الإخوة والدعاة وطلبة العلم، وقد زرت يوما هؤلاء الشباب رفقة صديق لي، وكانوا يبيتون مجتمعين بأحد المنازل المهجورة، بعد شروق الشمس، فوجدناهم لا زالوا نائمين، فقلت لهم موبخا: كيف تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وأنتم تُفرطون في صلاة الفجر؟ أليس هذا منكرا وكبيرة من الكبائر؟

لقد كان لأبي حفص دور كبير في انحراف خرجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن مبادئها وأهدافها التي خُططت لها من قبل قدماء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، واختلط الحابل بالنابل، ولا زلت أذكر في ليلة من الليالي وقد اجتمع كثير من الشيوخ بمنزل أحد الإخوة بحي السعادة بفاس بمناسبة حفل زفافه، وكان من بين الحضور الشيخ محمد الفزازي الابن والشيخ أبو حفص، وكان الحضور كبيرا جدا؛ فتكلم الشيخ الفزازي عن مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر أنه لا يجب بتاتا أن تكون باليد، لأن ذلك من اختصاص السلطات، وتكلم كلاما علميا مضبوطا ومقنعا؛ وقد كان هذا هو مذهب الفزازي من يوم عرفته وقرأت له، وكان يذكر ذلك في مقالاته وردوده ومحاضراته ودروسه، فتمتم كثير من الحاضرين ولم يُعجبهم كلام الشيخ الفزازي؛ فأخذ الكلمة الشيخ أبو حفص ورد ردا عنيفا على كلام الشيخ الفزازي مذكرا الحاضرين بقياسه الذي يذكره دائما في هذه المسألة، وهو أنه لو كنت تمشي في الطريق ومعك أمك أو زوجك أو أختك أو إحدى قريباتك وتعرضت لسوء أو تحرش أو اعتُدي عليها وأنت تنظر فهل ستسكت أم أنك ستُدافع عن عرضك وأهلك وكرامتك ولو اقتضى الأمر أن تُضحي بنفسك؟؟ ثم يُردف قائلا: فكيف بك وأنت تسمع سب الله والرسول والدين، فأيهما أحب إليك.. أمك وزوجك وأختك أم الله ورسوله والدين !! ثم قال بالحرف: هذه الأعمال التي يقوم بها هؤلاء الشباب بُطولات يجب أن تُكتب بماء الذهب.. فاهتز حينها سطح البيت بالتكبير والتهليل..

بل لقد صرح أبو حفص من داخل سجنه الأول في أول تصرح صحفي حينها لصحيفة (الصحيفة) في عددها 68 بتاريخ 31ماي/6 يونيو 2002م، في رده على سؤال: ما علاقتك بالشباب المتابعين في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فقال بالحرف: “غالب هؤلاء الشباب لا أعرفه معرفة شخصية، ولكن قد يكونون من المداومين على حضور دروسي ومحاضراتي. لكن بغض النظر عن إصابة هؤلاء أو خطئهم فيما فعلوه، وبغض النظر عن الكيفية والطريقة، الذي أستغرب له: هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبح جريمة يُعاقب عليها القانون؟ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهم من سهام الإسلام، وفريضة دينية، وهو مهمة الرسل والأنبياء، والمصلحين والعلماء، وبه قوام الأمة، ومتى تخلفت عنه أصابها الذل والهوان..”، ثم يواصل قوله: “تزعم السلطة أن لها الحق وحدها في ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيا ليتها قامت بذلك… لو فعلت ذلك لا أعتقد أن هؤلاء الشباب سيقومون بما قاموا به”.

هذه الفتاوى الطائشة من أبي حفص الموجبة والمدعمة لعمليات النهي عن المنكر باليد أعطت لهذه العمليات بُعدا خطيرا، وجعلت القائمين بها بحي لابيطا ظهر الخميس يُكثفون منها ويوسعون نطاقها حتى وصل الأمر إلى وقوع صراعات مسلحة -استعملت فيها السكاكين و(المساطر) والهراوات- بين الإخوة وبين بعض أباطرة المخدرات، وقد نتج عن تلك المواجهات قطع يد أحد أكبر مروجي المخدرات حينها، وهو ما سيُحاكم بسببه كل المعتقلين بحي لابيطا ظهر الخميس سواء قبل أحداث 16 ماي أو بعدها، وتوزع عليهم عشرات السنوات من السجن.. وسرعان ما انقلبت أجهزة الأمن على هؤلاء الشباب، وبدأت تعتقلهم بتهم الضرب والجرح، وانتحال وظيفة نظمها القانون، وتنكرت لأولئك الذين مدوا لها يد المساعدة في القبض على كثير من أباطرة الإجرام والمخدرات؛ بل نهجت السلطات أسلوب وضع الفخاخ لاصطياد هؤلاء الشباب، فكانت تشجع بعض المنحرفين على إعلان سُكرهم وعربدتهم لاستفزاز أولئك الشباب واستدراجهم إلى المصيدة ليُلقى عليهم القبض وهم مُتلبسون بجريمة النهي عن المنكر !! وهكذا أصبحت السلطات الأمنية تُناصر السكارى والحشاشين وتعتقل كل من سولت له نفسه الوقوف في طريقهم.. وقد حدث هذا عند اقتراب وقوع أحداث 16 ماي الإرهابية بشهور قليلة فقط..

واليوم يؤكد أبو حفص في كل مناسبة على مظلوميته، ويُصرح بملء فيه أنه لم يكن يوما يؤمن بمنهج التكفير والتفجير، وأنه بسبب مراجعاته الجريئة تعرض لانتقادات شديدة من أصدقاء الأمس بلغت حد تكفيره، وأنه لم يكن يوما ما حرا مختارا في تقلباته وتحولاته، وإنما كان ضحية سياسات عمومية وبيئة أسرية جعلت منه شيخا سلفيا دون رضاه، وأن التحول الوحيد الذي قام به في حياته هو التحرر من كل القوالب التي تربى في وسطها، وانطلاقه نحو فكر حر غير مقيد بأي أيديولوجية معينة !! ولو كان يملك الشجاعة والجرأة لاعتذر لأتباعه القدامى عن تلك الفتاوى التي أذكت حماسهم وزجت بهم في غياهب السجون، وكان عليه أن يبذل كل ما يستطيع لإقناعهم بخطإ ما كانوا عليه كما أقنعهم من قبل بصوابه ووجوبه، بدل أن يتنصل من كل المسؤولية في مراجعاته ويرمي بها هؤلاء الأتباع والأصحاب الذين مارسوا عليه الإكراه والإرهاب..

إن التاريخ يشهد أن أبا حفص كان مسؤولا عن كل التجاوزات التي حصلت في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه كان بالغا عاقلا وحرا في كل أقواله وأفعاله، وأنه مسؤول عنها أمام الله وأمام الناس، وأما تعرضه للانتقاد الآن فليس بسبب مراجعاته وتراجعه عن أخطائه وهفواته كما يُوهم، وإنما هو بسبب أفكاره الجديدة التي يطعن فيها في قطعيات الشريعة الإسلامية، مثل مسائل الإرث وعذاب القبر والدفاع عن الحريات الفردية… فهذا لا علاقة له بالمراجعات؛ وهو ليس خاصا بالسلفية الجهادية، ولذلك ناقشه فيها كل علماء الأمة بمن فيهم بعض رؤساء المجالس العلمية المحلية ببلادنا.. فمتى يُدرك أبو حفص أن تدليساته وتلبيساته لا يُمكن أن تنطلي إلا على من لا يعرف تاريخه ومسار تحولاته التي لا تنتهي، ومتى يعلم أن الخلاف معه ليس بسبب مراجعاته وتراجعاته، ومتى يمتلك الشجاعة للاعتراف بأخطائه وزلاته دون مراوغة ولا دوران.

المسألة الثالثة: مسألة الجهاد في سبيل الله

معلوم أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وهو باق إلى يوم القيامة، وما سُميت السلفية الجهادية بهذا الاسم إلا لعنايتها بأمر الجهاد في سبيل الله، ومناصرتها للمستضعفين من المسلمين في كل مكان، وبذلها في سبيل ذلك الأموال والأنفس، ومفارقة الأهل والأوطان، ومقاساة غياهب المعتقلات والسجون.. وإن الخلل الذي وقعت فيه السلفية الجهادية في المغرب في باب الجهاد يكمن في تحديث الشباب عن الجهاد وفضله دون فقه ولا ضوابط ولا شروط، ودون حديث عن طريقة تنزيل أحكامه على أرض الواقع..

إن الشباب عندما يسمعون الحديث عن الجهاد وفضله في الدروس والخطب والمواعظ يعتقدون أنهم معنيون بهذا الجهاد، وكيف يكون جهاد دون فقه ولا إعداد ولا تخطيط ولا قائد؟ وأين يكون هذا الجهاد؟ ومن نجاهد؟

إنني أذكر يوم كان الشيخ أبو حفص يشرح متن الرسالة في الفقه بإحدى دور القرآن بسيدي بوجيدة بفاس.. أذكر كيف انتقل بعد الهجوم الصليبي على إمارة طالبان الإسلامية بأفغانستان إلى باب الجهاد من الرسالة وهو لم يختم بعد الحديث عن نواقض الوضوء، وكذلك فعل في شرحه لصحيح البخاري الذي كان يُلقيه بدار القرآن بحي لابيطا الدكارات، حيث انتقل من كتاب الإيمان إلى كتاب الجهاد !!

إن الشاب الذي يستمع إلى درس الجهاد في سبيل الله، وإلى ترغيب نصوص الوحي في الجهاد، وما أعده الله للمجاهد في سبيله، ثم يرى الظلم الذي يقع على المسلمين في أفغانستان وباكستان وفلسطين والعراق.. كيف سيكون رد فعله؟ إن ما كان يذكره الشيخ عن الجهاد وفضله صحيح لا إشكال فيه من الناحية الفقهية النظرية، وإنما الخلل في زمان عرضه والفئة المستهدفة به، والحماس الكبير الذي يُلقي به الشيخ تلك الدروس.. كل هذا أدى إلى وقوع انحرافات سلوكية عند الشباب السلفي الجهادي، تمثلت في ممارسات شاذة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الأهل والأقارب داخل البيوت، أو مع العصاة والمنحرفين في الشارع العام، فإن الشاب الذي قصرت به ظروفه عن الالتحاق بساحات القتال والجهاد، فأضعف الإيمان أن يُجاهد في محاربة مظاهر الانحراف والانحلال المنتشرة في مجتمعه.

وإن من المسائل الخطيرة التي تحدث عنها أبو حفص في دروسه ومواعظه، وأطال النفس فيها، مسألة اشتراط وجود الإمام وإذنه في وجوب الجهاد، وكان يُرجح عدم اشتراط وجوبه.. مكررا في ذلك عبارته الشهيرة في هذا الباب: إذا كان الإمام كافرا وتجب إزالته، فهل  نأخذ الإذن منه لنزيله !! إن هذا الكلام كان يُوحي بأن الشيخ يرى كفر حكام المسلمين، وإن لم يكن يُصرح بذلك مباشرة لكنه كان يُلمح لذلك في كثير من دروسه وخطبه، ومن ذلك أنه تحدث مرة في درس من الدروس في رثاء الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي رحمه الله فذكر أن من فضائله أنه سئل مرة من ملك السعودية فقال: هو كافر..

وتخيلوا معي كيف سيتصرف شباب قاصر استمع لمثل هذه الدروس.. إنه لا يحتاج لإذن أحد، ولا لوجود قائد أو إمام للجهاد، ومن سيُجاهد؟ وأين سيُجاهد؟ الجواب يأتينا من خُطب أبي حفص النارية التي كان يُلقيها بمسجد حي البركاني ببنسودة بفاس.. واسمعوا معي لهذه المقاطع من خطبته العصماء (عذرا فلسطين).. يقول فيها: “… إنها الحرب الصليبية اليهودية التي اشتعلت في كل بقاع الأرض تستهدف الإسلام والمسلمين… حرب صليبية شعواء تشتد يوما على أرض أفغانستان، وتستعر يوما على أرض اليمن، ويوما آخر على أرض فلسطين…

ما هذا الذي يقع على أرض فلسطين؟ أجيبوا يا أمة المليار، أجيبوا يا أمة الجهاد والاستشهاد، ألم تُحرككم تلك المناظر المفجعة؟… ألم تتقرح قلوبكم؟… ألم تتقطع أكبادكم؟… ألم تسمعوا أنات اليتامى، ألم تسمعوا آهات الثكالى؟…” ثم يوجه كلامه للحكام قائلا:

“ما هذا الخذلان لأبناء هذه الأمة؟ أينكم أيها العملاء، أينكم أيها الخونة، أينكم يا طواغيت العرب؟ بِعتم الأوطان، بعتم كل قضايا الأمة… وها أنتم اليوم تبيعون أبناء الأمة لأمريكا وحلفائها… ماذا قدمتم أيها الخونة وأنتم تجتمعون في قمة لبنان.. معذرة.. أقصد قُمامة لبنان… ما فائدة هذه الجيوش والعساكر الضخمة والآليات العسكرية التي تُجْبُون من أجلها الأموال… لعنات ربي عليكم وعلى جيوشكم.. جيوش الذل والخزي والعار… ما فائدة أجهزتكم الاستخبارية والأمنية؟ قولوا إن كل هذه الجيوش والأجهزة ما جُعلت إلا للتجسس على الموحدين والصادقين، وإيذاء الدعاة الربانيين، أما أحفاد القردة والخنازير فدعوهم… دعوهم يمرحون كيف يشاؤون في البلاد، ويعيثون فيها الفساد، ومن تعرض لأحدهم بأذى أو إهانة فالسجن مصيره دون شك ولا ارتياب !!

بل قولوا إن هذه الأجهزة ما وُضعت أصلا إلا لحماية اليهود والصليبيين… لقد فاحت رائحتكم يا معشر العملاء فأزكمت الأنوف، وأعمت العيون… فُرص تاريخية هاته أكرمنا الله بها لنفضح عمالتكم ونُظهر خيانتكم… فهنيئا لكم وفاءكم لأسيادكم…”.

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، مما كان الشيخ أبو حفص يُحرض به أتباعه، بكلماته الرنانة، وخطبه الطنانة، وعباراته المنمقة، وتعبيراته المزوقة.. ثم هو اليوم يدعي أنه كان معتدلا، ولم يصدر عنه ما يدينه بغلو أو تطرف.. وأنا أدعوكم لتتخيلوا معي كيف سيخرج شاب متحمس حضر مثل هذه الخُطبة، وأكثر خُطبه كانت مثل هذه، التي دامت أكثر من نصف ساعة، مليئة بعبارات التحريض والتشجيع على فعل شيء لنُصرة المستضعفين من المسلمين، وهو يرى على شاشات التلفاز صور القتلى والجرحى، وآلام الأطفال وصرخات النساء، ويسمع الشيخ يقول بملء فيه فوق منبر الجمعة في مئات من المصلين: “ومن تعرض لأحدهم بأذى أو إهانة فالسجن مصيره دون شك ولا ارتياب !!”.. إنه يدعوه لفعل أي شيء، ويفتي له باعتراض طريق اليهود والنصارى الذين يجدهم في طريقه ولو كان مصيره السجن.. وهذا الأمر قد حدث بالفعل، واعترض بعض الشباب طريق السياح الأجانب، واعتدوا عليهم بالضرب والجرح وسرقة الممتلكات، وقد رأيت مرة مجموعة من الفتيان يُطاردون سائحين أجنبيين خارج باب المحروق في الطريق المؤدية إلى باب عجيسة عن طريق رميهم بالحجارة، وكادت الأمور تتطور إلى الأسوأ لولا تدخل بعض المارة لإنقاذهما.

وإنني لا زلت أذكر يوم اعتقل أبو حفص الاعتقال الأول بعد إلقائه خطبته الأخيرة (حقيقة الابتلاء)، فكان اعتقاله قبل يوم الجمعة بيوم أو يومين، وقد تواعدنا إن لم يُطلق سراحه يوم الجمعة لنزحفن زحفا إلى مسجد حي البركاني الذي كان يخطب فيه، وفي صباح يوم الجمعة توافد الإخوة من كل حدب وصوب، بعضهم يحمل هراوات وبعضهم أسلحة بيضاء، والكل في حالة من الهيجان والغليان، واختلفنا هل نذهب ونقتحم المسجد الذي أغلقته السلطات ونخطب فيه الجمعة، أم نصلي بالساحة خارج المسجد؟ ولولا لُطف الله تعالى وحكمة بعض تلامذة الشيخ لتطورت الأحداث إلى مواجهات دامية مع عناصر الأمن الذين انتشروا انتشارا واسعا في كل مكان في ذلك اليوم.. وكل هذه التصرفات الهوجاء من بركات خُطب الشيخ النارية.

فإذا كان أبو حفص يُقدم نفسه اليوم على أنه ضحية لظروف وطنية ودولية ساهمت في تشكيل شخصيته المضطربة، فلماذا لا يعترف بهذه الكوارث التي تسبب فيها بفعل تهوره وحماسه، ولماذا يُبرئ نفسه بالكذب والتدليس وهذه خُطبه ودروسه شاهدة على ماضيه القريب.. وهل دروس الجهاد في سبيل الله تُلقى بهذه العشوائية فوق المنابر؟ هل نعذر الشيخ الذي يبلغ من العمر ثلاثين سنة على حماسته الزائدة وتهوره المفرط، ولا نعذر الشباب الطائش الذي لم يُكمل عِقْده الثاني بعد؟

[1] كتب محمد عبد الوهاب رفيقي باسم مستعار(أبو أسامة المغربي) يرد فيه على الفزازي وموقفه من الانتخابات، ،ذلك بجريدة البيضاوي عدد 52 ماي 2003

اترك رد