مترشحون على رقعة الشطرنج

بقلم: يوسف الطويل

الساعة تشير إلى الثامنة إلا الربع صباحا اتجه جل المترشحين الأحرار لإجتياز امتحان الباكالوريا إلى أقسامهم شارذي الدهن منتفخي الأوداج منهمكين من فرط السهر في الليلة الماضية ثم توزعوا على مقاعدهم بعد لفة قصيرة بين الطاولات، فسرعان ما تسلل الهدوء إلى كل جنبات الأقسام حتى دخلت كريمة بخطوات متثاقلة تحمل بين ذراعيها أوراق التحرير مطبوع في أعلاها بخط كبير “لا يسمح بكتابة أي شيء داخل الإطار، دق الجرس طويلا مثلما يدق في ثكنات رجال المطافئ باكرا كإعلاما لوقت التدريب أو العمل ، ثم تبعها زميلها في توزيع أوراق الوسخ فلا هو يراقب الإستدعاءات ولا يكلم أحدا، يقوم بعمله ملمحا إلى أنه مراقب مسالم ويخبر المترشحين بصمته وهدوئه بأن يفعلوا ما يريدون شريطة الصمت وعدم إثارة المشاكل، ثم اتخذ المكتب مقعدا له مبعدا نفسه عن كل ما يوقعه في مشادات كلامية أو نزاع.

دخلت الموظفة المكلفة بكتابة الإمتحان لتوقع على كل ورقة خاتم المؤسسة، لفتت انتباه المترشحين واستفزت المراقبين بابتسامتها الحانية فهم لا يتقبلون زملاءهم النشيطين أو الذين تظهر عليهم علامة الفرح ففي داخلهم يمكث إنسان متشبع بالحقد والحسد لا يتقبل من هو أحسن منهم ولا يهدأ شره أبدا، على غفلة من الجميع استغل كل واحد منهم انشغال كريمة بتنورة الكاتبة وانبهارها بخصرها المتمايل وزميلها الذي لا يكلف نفسه بالنظر إلى أحد منهم كأنه يمارس عملا يبدو ثقيلا على قلبه ، استقبلوا المكالمات وأطلعوا من جيوبهم أوراقا صغيرة أحيانا تصلح وأحيانا يخيب أملهم ، فما إن ظل المترشحون والمراقبون وجها لوجه حتى بدأت عملية الغش في تابعة من أمرها.

وصلت رسالة قصيرة إلى هاتف الأستاذة كريمة باعتبارها المراقب الرسمي فلا يسمح باستعمال الهاتف داخل حصة الإمتحان، اتخذت وهلة مع نفسها لتقف متسمرة أمام باب الحجرة تحمل هاتفها بيمناها المتكئة على يسراها المكتوفة تقرأ ما ورد من حبيبها الجديد والفرحة تسبق أعينها، كان قد اعتذر مسبقا عن عدم مجيئه في الموعد المحدد مساءا ووعدها بالأحسن في المرة القادمة …، أغلقت هاتفها بلا رد فتبخرت فرحتها وتحولت إلى غضب فاشتدت قسمات وجهها إحباطا ، واستدارت نحو المترشحين ترمقهم بنصف عين وحاجب جعلتها تضبط أول محاولة غش ، سلبت المترشح هاتفه وهددته بتقرير فاحتج هو غير راض على غياب العدل بين البقية فوجه استعطافه للمراقب الآخر “أستاذ صوفينا الله يحفظك” طأطأ رأسه خجلا ولم يتفوه بكلمة فانطلقت كلمات العتاب من لسان كريمة تتباهى بمسارها الدراسي تهلوس بطوليا ولم تصمت حتى دق جرس نهاية الحصة الأولى.

تسابقت أيادي الأساتذة القادمين من مؤسسة أخرى على كؤوس الشاي والحلوى فتركوا الصحون فارغة تطالب الوزارة بإشباع بطون أطرها الناهمة التي لا تكل ولا تمل من الهضم ، ظهر أمين في باب قاعة الأساتذة يلقي تحية السلام بعد وصوله لتوه ، معرضا على جلوسه لتناول وجبة الفطور فهو لم يعد يطيق طقوس الإمتحان الروتينية المتكررة في كل سنة، ويرى دائما أن المؤسسة الحكومية لم تصل بعد لمرحلة الرقي للنهوض بالمنظومية التعليمية ككل والبيداغوجية التي يسيرون على خطاها ، تسلم ملف أزرق ينطوي على لائحة المترشحين من بين يدي المدير الذي لاطالما كان معه في صراع حول ما يقوم به ، فالأستاذ الذي يقف دائما ضد الإدارة دفاعا على تلميذه يكون موضوعا على طرف كل لسان ولا يسلم من الصفات الخبيثة المنعوت بها في حين أن الأستاذ الذي يتعاون والطاقم الإداري على تحطيم التلميذ له مكانة خاصة ويعتبر إطارا يقوم بعمله ، هكذا أفكار يرددها أمين في خاطره ويختمها بأمل في إنهاء دكتوراه وتغيير الإطار.

لا قانون يعلو فوق السلطة والمال في أي مجال أو قطاع يطغى طابع “باك صاحبي” أو ما يطلق عليه ب “ولد الفشوش” استقبل مدير مركز الإمتحان مكالمة تلقى من خلالها امرا بتمزيق ورقة امتحان لأحد المترشحون أشار إليه باسمه الكامل واستبدالها بأخرى تحمل الأجوبة الصحيحة ثم دسها من بين جميع الأوراق كأن المترشح نفسه من أنجزها، في البداية أعرض عن ذلك خوفا على نفسه أو إيقاعه في فخ قد يدبر له ، فسرعان ما تلقى تهديدا يأكد له أن ما يخاف منه هو ما سيقع في المستقبل نفذ ذلك في عجالة والتوتر يغمر جسده وحبات عرق باردة لا تغادر جبينه ينشفها بمنديل فتعود لتقبع على وجهه في تحد عقابا وعتابا له على فعلته.

يمر الإختبار بنفس الوتيرة مثل سابقه هذا يفوز بالغش وذاك يهان والآخر يعتصر ألما وحسرة على أيام مضت لم يتم استغلالها بالشكل الصحيح حتى لو أنه لم يرسب فتظل النقطة التي حصل عليها ليست هي التي كان يحلم بها ، أطر تنهي عملها لأجل العطلة وأطر أخرى ليس لها غير العمل والعطلة تأتي لهم بالملل ، هذا يطمع في تعويضات التصحيح والآخر يتمنى الراحة عوض ذلك ، اختلاسات تمر من تحت الطاولة وأخرى يخطط لها في المستقبل تحت وطأة المصلحة الذاتية وقيادة التعليم إلى الهاوية.

اترك رد