التعليم قاطرة التنمية في ماليزيا

 بقلم: طارق الليساوي

أهم دعائم المنظومة التعليمية الماليزية: التعليم للجميع، كثافة الإنفاق العمومي،و تراكم الإصلاحات الناجحة…
د.طارق ليساوي
رأينا في مقال الأمس المعنون ب”نهضة ماليزيا قامت على مبدأ ” إذا أردت حصاد مائة عام فعّلم َشعب ” ، أن نهضة ماليزيا راهنت على العنصر البشري و اعتبرته غاية ومنطلق عملية التنمية والتحديث، وانطلقت من واقع تحديث التعليم وتقوية المنظومة التعليمة، ووضع الخطط و البرامج الهادفة لتجويد مخرجات العملية التعليمية، وتأهليها لتخريج كادر بشري، مؤهل لحمل مشعل النهضة، والمشاركة بفعالية في المجتمع المحلي، و المجتمع العالمي…و بعد أن أعطينا تعريفا لمفهوم التحديث التربوي و عرفناه بأنه: “مختلف العمليات والتدابير للانتقال بنظام تربوي معين من الواقع التقليدي المتقادم إلى نظام آخر جديد..” و تبعا لذلك، فإن مفهوم التحديث التعليمي أو التربوي يختلف جذريا، عن مفهوم الإصلاح التربوي إذ أن الأول يتخذ شكل التغييرات الجذرية وليس مجرد خطوات إصلاحية قد تنجح و قد تفشل ..
سنحاول في هذا المقال إعطاء صورة عامة عن واقع التعليم في ماليزيا، بالاعتماد على مؤشر الانفاق العمومي، و سمات و تعددية المنظومة التعليمية، و التحديات الراهنة والمستقبلية التي تواجه المنظومة التعليمية الماليزية..
أولا- الإنفاق على التعليم مؤشر على محوريته في سياسات ومخططات الدولة يعد التعليم حق أساسي لكل طفل في ماليزيا، بصرف النظر عن ثروته أو أصله الإثني أو خلفيته، فالمساواة في فرص الوصول إلى التعليم الجيد الذي سيمكّن الطالب من بلوغ كامل طاقاته حق أساسي يقره الدستور الماليزي ، وتؤكده مختلف السياسات و البرامج الحكومية، فالنظام التعليمي الماليزي يستند إلى مبدأ “التعليم للجميع”، بغرض ضمان حصول الجميع على التعليم والتحاق جميع الأطفال بالمدارس من التعليم قبل المدرسي إلى المرحلة الثانوية..و هذا التوجه العام تدعمه الممارسة العملية من خلال سياسات الانفاق العمومي على التعليم..
ففي عام 2011، تلقت وزارة التعليم مخصصات قدرها 9.58 مليارات دولار أمريكي أو 16.17 في المائة من الميزانية السنوية الوطنية، مقارنة بـ 4.4 مليارات دولار في عام 2005، وخصصت الحكومة مبلغ 2.06 مليار دولار لنفقات التنمية من أجل بناء المدارس وبيتاً للشباب والمرافق والمعدات وتحسينها، فضلاً عن تعزيز مهنة التدريس، وخُصِّص من هذا المبلغ 1.74 مليار دولار لتشييد 474 1 مدرسة و30 بيتاً للشباب وترقية 574 مَدرسة. وعلاوة على ذلك، خُصص 68.70 مليون دولار لمكافأة المدارس التي تحقق أداءًا عالياً، فضلاً عن نُظّار المدارس والمدرّسين الرئيسيين والمدرّسين المتميزين. وقد كوفئ حتى الآن أزيد من 52 مدرسة عالية الأداء وحوالي 600 14 مدرّس، بمن فيهم 586 مدرّساً رئيسياً. وفي عامي 2012 و2014، خُصص لقطاع التعليم 16.19 مليار دولار، و16.68 مليار دولار على التوالي.
وتُبين هذه المخصصات الكبيرة التزام الحكومة وتركيزها على التعليم بوصفه إحدى الأدوات الرئيسية للأمة التقدمية. ويتلقى جميع الأطفال الماليزيين التعليم بصرف النظر عن جنسهم أو خلفيتهم الاجتماعية والاقتصادية. وتقدَّم مبادرات وحوافز مختلفة إلى الأطفال لضمان إتاحة فرص الوصول للجميع. وما فتئت الحكومة تكفل الحصول على التعليم الجيد بكلفة ميسرة. وتطلّب إلغاء الرسوم المدرسية في عام 2011 تخصيص 48.38 مليون دولار …
ثانيا- التعددية و التنوع من سمات المنظومة التربوية الماليزية برغم من فعالية القطاع العام و محوريته في تقديم السلع العمومية في مجال التعليم ، إلا أن ماليزيا تسمح للقطاع الخاص بتقديم الخدمات التعليمية، وتحصل المدارس التي ينشئها القطاع الخاص على تمويل من مصادر خاصة وتوفر التعليم العام والتعليم الديني،ويمكن للأطفال في ماليزيا الاختيار بين المدارس الحكومية أو المدارس الابتدائية والثانوية الخاصة، ويعتبر انتقال الأطفال من المدارس العامة إلى المدارس الخاصة أو إلى مؤسسة دينية والعكس مسألة شائعة في ماليزيا.
وعلاوة على جهود الحكومة الرامية إلى تحسين فرص التعليم المتاحة لجميع المجتمعات المحلية، و ابتداءا من عام 2012، استفاد ما مجموعه 30 مدرسة دينية، و228 مدرسة باللغة الصينية، و59 مدرسة باللغة التاميلية، و135 مدرسة تبشيرية و580 مدرسة تتلقى مساعدات من الحكومة من مخصصات بلغت قيمتها حوالي 80.64 مليون دولار لأغراض إنمائية…كما قدمت الحكومة نحو 30.66 مليون دولار في شكل منح إلى 18 مدرسة ابتدائية و140 مدرسة دينية ثانوية شعبية… ويجري تعزيز المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب من خلال برامج مختلفة، بما في ذلك فحص القراءة والكتابة والحساب وبرنامج الانتعاش و تحسين الكفاءة في اللغة الإنكليزية لدى الطلاب …
ثالثا- التحديات التي تواجه المنظومة التربوية
بالرغم من جميع الموارد والبرامج والمبادرات المسخرة لضمان حصول الجميع على التعليم، إلا أن الحكومة لازالت تواجه تحديات عديدة، وللتغلب على بعض هذه التحديات، وضعت الحكومة خطتين رئيسيتين لمعالجة النواقص، فيما يخص توفير التعليم المناسب للجميع تلبيةً للاحتياجات الراهنة والمستقبلية:
1- المخطط العام للنهوض بالتعليم (2006-2010):
ويستند هذا المخطط إلى إنجازات خطط التعليم السابقة ويواصل التركيز على فرص الوصول إلى التعليم والإنصاف والجودة في التعليم، فضلاً عن كفاءة وفعالية نظام الإدارة التعليمية.. ويرتكز المخطط على 6 محاور إستراتيجية، وهي: بناء الأمة، تنمية رأس المال البشري، تعزيز المدارس الوطنية، سد الفجوة التعليمية، رفع مستوى العملية التعليمية،تسريع التميز في المؤسسات التعليمية…
2- مخطط التعليم الماليزي (2013-2025) :
و يستهدف هذا المخطط تحقيق خمس تطلعات نظامية وهي: الوصول، والجودة، والإنصاف، والوحدة والكفاءة، وهذه التطلعات يدعمها أحد عشر تحولاً توفر أرضية مشتركة لتحسين المجالات التي تشكل موضع اهتمام مشترك والتي يتفق عليها أصحاب المصلحة والجمهور بصفة عامة، و من ضمنها :
• توفير فرص متساوية في الحصول على تعليم جيد يستجيب للمعايير الدولية؛
• ضمان تمكين كل طفل من إتقان “الباهاسا” الماليزية واللغة الإنكليزية وتشجيعه على تعلم لغة إضافية، وبناء شعب ماليزي متشبع بالقيم..
• تحويل مهنة التدريس إلى مهنة مفضلة، وضمان توفر كل مدرسة على قائد من مستوى عال..
• تمكين إدارات التعليم بالولايات وإدارة التعليم الإقليمية والمدارس لكي تكون قادرة على تقديم حلول تناسب الاحتياجات، والاستفادة من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتوسيع نطاق التعلّم الجيد في جميع أنحاء ماليزيا..
• تحويل إمكانات الوزارة وقدرتها على تقديم الخدمات، وإقامة شراكات مع الوالدين والمجتمع المحلي والقطاع الخاص على نطاق واسع، و جعل الطلاب يحصلون على أكبر قدر ممكن من النتائج مقابل كل ” رينغت” سواءا كان مصدره ميزانية الدولة او ميزانية الاسر، و هو الأمر الذي يقتضي زيادة الشفافية فيما يتعلق بالمساءلة العامة المباشرة…

وعليه، فإن تحديث التعليم و إصلاحه يعد عملية طويلة الأمد تتطلب تحديد الأهداف ومراقبة تطبيقها، وحشد و توفير الموارد المادية والبشرية و المعرفية، وأخذ العبرة من تجارب الآخرين، والاستناد على ممارسات صحيحة…لذلك، لا يوجد حرج لأي شخص أو أمة أن تحاكي و تقتبس أساليب نجحت عند غيرهم، فلقد قامت ماليزيا بنقل أساليب من اليابان و كوريا الجنوبية عند حاجتها لتلك الأساليب…و هو الأمر الذي على البلدان العربية إتباعه في محاولاتها لإصلاح المنظومة التعليمية، فقد نجحت ماليزيا في إعادة هيكلة القوى العاملة فيها في وقت زمني قياسي، و هو نفس الأمر الذي تحقق في الصين و الهند و تركيا… ويجب أن لا يكون هدفنا نسخ تجاربهم، وإنما تعلم كيفية تنفيذ الإصلاح بطرق فعّالة وتوظيف الموارد و القدرات بفعالية، ووضع الخطط والبرامج القابلة للإنجاز..
و لا مانع، أن يكون الإصلاح بشكل تدريجي، لكن شريطة أن يكون إصلاحا حقيقيا، يُساهم في الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي ورفع مستوى الشعوب و توسيع خيارات الانسان، و تقوية قدرات الفرد و المجتمع..و لتحقيق ذلك، لابد من توافر شرطان لابد منهما: أولاً، الاعتراف بشجاعة بأن الوضع القائم لا يساهم في تنمية عقول الجيل الناشئ ليقوموا بما هو مطلوب منهم، وثانياً، الرغبة السياسية والوطنية بتطبيق التغييرات المقترحة..وهو ما فعلته ماليزيا و إلتزمت به، لكن بلداننا العربية أهملت هذين الشرطين في برامجها الاصلاحية المتتالية.. ومن تمت، لم تستطع تحقيق نهضة تعليمية، فالأنظمة الحاكمة في عالمنا العربي رفعت شعار الحكمة الصينية القائلة: “إذا أردت مشروعاً تحصده بعد عام فأزرع قمحاً”… و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لايعلمون ..

 أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..

اترك رد