الجزائر: قائد الأركان والانسداد السياسي

بقلم: نور الدين ثنيو  *

 

ما يحاوله قائد الأركان في حل أزمة الجزائر هو محاولة في المستحيل، أشبه بمحاولة تربيع الدائرة. فقد غالبه الزمن الذي لم يعد لحكم العسكر، بل للحكم المدني، الذي كان يفترض أن الجزائر، كدولة حديثة، دخلت فيه منذ وفاة الرئيس هواري بومدين نهاية سبعينيات القرن الماضي، عندما انتهى من إرساء كافة المؤسسات الدستورية، وتمت عملية انتقال سلطة الرئاسة، وفق ما جاء في نصوص الدستور فعلا، على قلة التجربة الديمقراطية بطبيعة الحال.

إلا أن مسار البلد آل إلى مصير آخر عندما استبد العسكر، على أثر استحداث رتب عسكرية سامية، بما لا يشفع لها من مبررات لا علمية ولا عملية، ساعد على تكوين حكم الجنرالات، وعلى رأسه الفريق خالد نزار بزيه العسكري قائد أركان ووزيرا للدفاع. وصارت القوة العسكرية تمارس على الحياة المدنية التي ضاعت في العبث بمصير الدولة والمجتمع، انتهى إلى ضرب الدولة في مقوماتها السياسية والأمنية في يناير/كانون الثاني 1992.

فعندما يتوجه قائد الأركان بكلماته إلى الشعب من مواقع عسكرية، فهو يلهي نفسه بأن الزمن العسكري لايزال قائما، وأن قيادة الأركان هي المرجع الأخير والنهائي لحل الأزمة، بدون أن يتنبه أنه يطيل في عمر الأزمة، التي تلقى مقدماتها من النظام السابق، وهو يسعى إلى تفجيرها خارج الثكنات. فقائد الأركان الذي تمادى بشكل عنيف في التوجه إلى الشعب، يؤكد في كل لحظة أنه العسكري رقم واحد في البلد، وأنه يأتي على رأس تراتبية الجيش، ولا أحد يزاحمه المنصب من كل الجنرالات، خاصة الذين أقيلوا. فأصل العنف في خطابات قائد الأركان المتشابهة والمشبوهة، أنه يقصد الجنرالات من خلال توجهه إلى الشعب، ومن هنا الإخفاق الذي يلازم محاولة الخروج من الأزمة. فهو يخلط السياسي بالعسكري بصورة غير معقولة تماما، ومفارقة لعصر حكم العسكري. وحده في الميدان يصارع طواحين الهواء على طريقة دون كيشوت.

إن المجال الذي اقتحمه قائد الأركان لا يستأهله، لا من خلال الخبرة المحدودة جدّا، ولا من خلال الحنكة السياسية، فهو أبعد خلق الله عن السياسة، ولعّل التجربة القصيرة التي ورط نفسه أو تورط فيها منذ سقوط النظام السابق، تثبت إخفاقه الذريع، ليس بمعنى ما، ولكن بكل معاني الكلمة: سقوط خياره للعهدة الخامسة، سقوط تنظيم انتخابات رئاسية أصر عليها هو، سقوط الدستور الذي أراد أن يتمسك به بعد اختراقاته العديدة له، اتساع دائرة المعادين له من الحراك ومن رموز وأزلام النظام الآفل، وليس أخيرا، انسداد الوضع وبداية تراكم الفساد الذي يؤشر إلى ملامح ضرورة إسعاف بلد في حالة من العجز على إصلاح وضعه الداخلي.

حقيقة، أن قائد الأركان يواجه وضعا خطيرا بدون سياسة تذكر، وتمسكه بالدستور المخترق، هو بمثابة تمسك بقشة تنقذه هو كمتبق من النظام السابق. والعبرة بدولة العصابة ليس بمن هم في السجن أو خارجه، بل الجميع يندرج تحت طائلة الحكم السابق، الذي أسقطه الشعب بدون عنف، ولعلّ السلمية هي التي أغرت قائد الأركان بالتمادي في استغلالها لإطالة حكمه وعمر الأزمة معاً. وبالمناسبة، على ما جرى ويجري في العالم العربي وحتى في الجزائر، يمكن جدّا للوضع في الجزائر أن يبقى بدون انفراج لعدّة سنوات، تعمل بقايا السلطة على تعويد الشعب على الحالة الاستثنائية كوضع عادي، إلى أن ينقضي رئيس دولة استهلك فترته الدستورية في الحكم، ولم يفلح في تنظيم انتخابات رئاسية، وزاد على ذلك أن مرضه الخطير يحتم عليه ضرورة الاستقالة. قائد الأركان يواجه الوضع بدون سياسة تذكر، ولا يدرك مخرجات الأزمة، وواقع الحال يؤكد أنه يصنع الفراغ من حوله، إذا لم نقل المزيد من الأعداء والمناوئين له، خاصة من قبل من هم في السجن، إذا صحّ وصفهم بالسجناء.

الحديث عن الحوار كسبيل لتنظيم الانتخابات الرئاسية، بقي يراوح في المكان ذاته، ما قبل نفاد عهدة الرئيس الحالي، فالانتخابات الرئاسية مطلوبة كدعوة فقط، ويراد لها أن لا تتقدم، بل تأجيل الوقت، وتسويف الحل وتعليقه على مستقبل قريب، يُؤَمِّن بها وعودا ترد في خطابات جوفاء لا شيء فيها، لا تأخذ بما هو مطلوب فعلا، بل تؤكد حالة من الانسداد السياسي وحلت فيه قدما قائد أركان لا يستطيع أن يسعف الوضع، للانفراج. تدافع الشخصيات المدعوة إلى العضوية في لجان الحوار والاستشارة والحكماء، وسيلة قائد الأركان لملء الفراغ بالحديث السياسي في وسائل الإعلام، وَهْمًا منه أن هناك مسارا يجري ترتيبه نحو تنظيم انتخابات رئاسية، تزداد بعدا يوم بعد آخر. فقد دخلت الأزمة الجزائرية في مرحلة يتحمل مسؤوليتها قائد الأركان وحده، لأنه هو الذي صنع السياق الذي تَوَلّى فيها مسؤولية الحكم بعد سقوط النظام الفاسد. وعليه، فإن مرور ستة أشهر بدون رئاسة شرعية، تُرْصد ضمن السَّجل السياسي الفاسد لقائد الأركان، الذي أضاع أكثر من فرصة لترتيب الوضع إلى ما بعد نظام العصابة. فقد آل حال الجزائر إلى أزمة ثانية بسبب إخفاق في حل الأزمة الأولى: تنظيم الانتخابات الرئاسية بعد سقوط العهدة الخامسة.

الوضع السياسي في عَهْد قائد الأركان يُراكم أزمتين مختلفتين، الأولى هي تنظيم انتخابات رئاسية لم يوفق فيها، والأزمة الثانية، أنه يواجه وضعا معصوب العينين، يطفش بسياسة ليست من جنس الأزمة الأولى تماما. ومن هنا يأتي كل الخطر، عندما تعمد الجهة التي تسببت في الأزمة، إلى فرض حل غير لائق وغير معقول تماما. الإشكالية الجديدة التي أفرزتها مرحلة ما بعد دولة العصابة، ثم ما بعد إخفاق الانتقال إلى رئاسة الجمهورية، عبر ترتيب المرحلة الانتقالية كما ينص عليها الدستور، يختزل الوضع برمته، في أن الأزمة الجزائرية تحتاج إلى من ينقذها من «تدابير» قائد الأركان.

قرار تحديد تاريخ وأجندة الانتخابات الرئاسية من قِبَل قائد الأركان، ينم فعلا على أن هناك خلطا مفزعا بين السياسي والعسكري، وأن القائد يخوض في السياسة بذهنية العسكري الساذج الذي لا يمكنه أن يوفق إطلاقا في مهمته لأنه يمعن، وذاك هو مستواه الثقافي، في سياسة سبق وأن فشلت، عندما تم إلغاء وتأجيل مرة أخرى الانتخابات الرئاسية يوم 4 يوليو/تموز الماضي. أن محدودية الشخص والفراغ الذي يطوقه وتعدد الأطراف المناوئة والمعارضة له، وفي سياق زخم حراك يؤكد عصر الجماهير كفاعل جديد في الحياة السياسية، كل ذلك يستوجب تحويل التفكير إلى كيف السبيل إلى إنقاذ الجزائر بإبعاد قائد الأركان كطرف لحل الأزمة.

(*) كاتب وأكاديمي جزائري

عن القدس العربي

اترك رد