الخوف في البلد الأمين

بقلم: رشيد السليم

في إطار انتظار الساعة؛ لابد من تأثيث القاعة الكبيرة حيث تترقب الأمّة مصيرها، ولا ريب أن القيمين على ذلك متمرسون في الهندسة الصمتية والطباعة بالدم، مما يضفي على المشهد مسحة تخويفية تلائم أحداث النهاية. ربما أسأت استخدام كلمة “الأمّة” ببعثها من مقبرة المصطلحات البائدة ولكنها فلتة قول تبوح بسرّ النفس التواقة إلى لذة الانتماء الكبير؛ اِنتماء يسهّل على التلميذ المسلم رسم خريطة الوطن دون أن ينكسر قلمه بين الحدود، فلا شيء يضاهي شكل خريطتنا غير مرقعة الصوفي؛ ذلك الزي الذي يخاط ممّا مُزّق من أثواب في ليلة الحضرة، حاش لله أن أُحرّف القرآن الكريم، ولكن المسلمين يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين…
لطالما اطمأنت قلوبنا لمجرد رؤية الكعبة المشرفة، ومنينا أنفسنا بزيارة بيت الله الحرام، وراودنا إحساس جميل ونحن نحلم بشرف النزول في أطهر بقعة فوق الأرض، وتزاحمنا على حجاجنا العائدين لنكون أول المصافحين لعلنا ندرك في أياديهم بقية أثر من مهد النبوة… ولكن ما يصل مسلمي العالم من أخبار عن سياسة “البلد الأمين” الداخلية والخارجية؛ لمن بواعث الإحباط وتعميق الشعور باليأس وتسريب القلق العقدي إلى نفسية المسلم.
في غمرة الاعتقالات تساءل الناس عن معنى قوله تعالى “وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنا”، وأمام الإلقاء بالمودة إلى المنهي عن اتخاذهم أولياء؛ ترقب بعضهم ظهور فتاوى تعطل فريضة الحج حتى حين، ثم تعاظمت المصائب على كل البلدان المسلمة فأصبح مواطنوها يعشون تيها وجوديا لا راحة منه إلا عن طريق الإلحاد، بعد أن عجزت عقولهم عن تقبل هذا الواقع السريالي المؤلم المحاكي للكوابيس، حتى كتم أهل الإيمان في نفوسهم “متى نصر الله؟؟”.
إن ما يحدث في مركز الأمة يتردد صداه قويا لدى هواة الكتابة العرب على شكل أسئلة فلسفية وكلامية منسوخة، تدور حول الخير والشر، والإجبار والاختيار، والحق والواجب، والهوية والحرية، الديمقراطية والعدالة، والطاعة والعصيان… في قناعة مزيفة بأهمية المكتوب، ليس هذا تنقيصا من قيمة المعرفة، ولكنه حسرة على ما آلت إليه الأفهام من تخلف متلحف برداء البحث العلمي، نجتر غبار الحركة الفكرية؛ بل مخاضها الذي نشأ قبل مئات السنين، ونولي الدبر أمام المعيش، والأدهى أن كل من حاول تضميد جراح الواقع ـ بعيدا عن مبدأ الحجر على العقول ـ من العلماء والدعاة الذين يحترمون القدرات العقلية ويعترفون بالملكات النقدية لدى المتلقين هم أعداء كل الأنظمة المستبدة، يحرضون الناس على السؤال وقد نهى عنه القرآن في قوله تعالى “لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ”، ويخرجون الشك من دلالته على مبطلات الوضوء إلي دلالته على “تأكد” وهذا من المحدثات في الدين وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ولا أيسر على الذئب من إيجاد تهمة تدين الحمل…
وبين الخوف من الذئب والخوف من إخوة يوسف حارت فضاعت الأقلام، لقد صرنا نعالج الأسماء ونتجاهل المسميات، ندعو الناس ليكونوا فاعلين ونحن مفعول به منصوب عليه، ننفق الزمن النفيس في مفهوم الدولة ولا نفهم الدولة، أفصحنا والمجتهد منا يتحين الفرصة ليصرخ في الوجوه: “الأمة التي لا تعرف ماضيها لا يمكن أن تبني مستقبلها عودوا إلى التاريخ”، ولعمري لقد أعادنا التاريخ إليه، أعادنا إلى حفاظات طفولته، فتصابينا وتسلينا بخدع اللغة ونحن نحسب أننا نحسن صنعا، دماء تسيل من أجل الحرية، وآخرون يملأون دلاء كتبهم بمفهومها، يال العته.. تحدث عن الخبز قدر ما شئت فلن يشبع فرن لسانك البطون الجائعة، إذا كنت ممن يصدق أن التمكن من مفهموم الحقيقة يحتاج إلى بحث فلسفي فأنت ممن انطلت عليهم خدعة الإلهاء المعرفي، وإذا طلبت مفهوم الحقيقة عند فلان الفلاني فلعلك تحتاج إلى رقية شرعية، وربما أحتاج إليها أنا بعد هذا الهذيان.
مرة ثانية في إطار انتظار الساعة أقول إلى كل ظالم: “أنت ظالم ونحن الجبناء”

اترك رد