الفكر المادي وقضية الاسراء والمعراج. الانجري نموذجا (الجزء الثاني)

بقلم: د. جلال مودن

بعد أن سيطرت النظرية النيوتونية على المعرفة الحديثة جاء الدور على الفيزياء الكمية كي تهدم صرح المادة و مفهوم المكان و الزمان و الحركة . كانت لبحوث ألبرت أنشيتاين و تلاميذه بالغ الأثر في بروز التيار الجديد.
بفضل اكتشاف المكونات الدقيقة للذرة وماهيتها ، تبين أن الذرة اللبنة الحقيقية للمادة هي شحنات كهربية سابحة ، فالذرة تتكون من الكترونات وبروتونات ونيترونات ، والبروتونات تتكون من أجزاء متناهية في الصغر تسمي الكوارك وكلها شحنات كهربية سابحة ، يمثل الإلكترون القطب السالب والبروتون القطب الموجب إلي جانب المدارات التي تسبح فيها تلك الالكترونات وهي مدارات وهمية ومختلفة الطاقة ، إذن الذرة أصغر لبنات الكون المادي هي في الحقيقة شحنات كهربية أي طاقة .
بهذه النظرة تكون الذرة والتي تعتبر أصغر لبنة في بناء المادة والتي من أخص خصائصها الوزن الذري قد انحلت إلي حد الفناء وإلى حد فقدان كل صفة من صفات المادة فما هي إلا شحنات كهربية وطاقة.
وبهذا تغيرت النظرة العلمية للمادة ،فالمادة الصلبة في الحقيقة شحنات كهربية،و بذلك انهار المفهوم القديم للمادة المبني على الكتلة و المفسر لمجمل الظواهر الكونية.
فالذرة والتي تخضع لقانون المادة من حيث الوزن والكتلة هي في الحقيقة مكونة من أجزاء غير مادية، وأصبح العلماء يرون الكون يفقد صفته المادية ، ولم يعد هناك فروق جوهرية بين الطاقة والمادة ،مادام أن هناك إمكانية للتحول والتبادل بينهما، كما أن الموجات الكهرومغناطيسية والضوء والحرارة كلها صور قابلة للتبادل والتحول ، وحتى آراء الإنسان نفسه تظهر في شكل تيارات كهربية.هذا المفهوم الجديد غير بوصلة العلم الحديث و كان من نتائجه كل ما نراه اليوم من وسائل التواصل الحديثة.
أما نظرية ثبات الزمان و المكان التقليدية فقد كسرتها نظرية انشيتان في النسبية الخاصة ،الزمن عنده يدل على اوضاع مختلفة من المكان، الزمان والمكان متصلان بحقيقة واحدة ، فالزمن عبارة عن انتقالات رمزية في المكان ، و المكان مرتبط بالزمان بالضرورة، فالساعة الزمنية تدل على فترة معينة من الزمن قد تطول أو تقصر حسب السرعة والمكان.
فالزمن ليس قطاراً لا يعود أبداً للخلف، بل هو متغير يعتمد على تفاعل الكائن الذي يرصده مع بيئته الخارجية وسرعة حركته في المكان واتجاهها.
يؤمن العلماء اليوم بفضل هذه النظرية أن الزمن هو جزء من نسيج الكون، ملتحم بالمكان ولا يمكن فصله عنه، وأن الأبعاد الأربعة (أبعاد المكان الثلاثة، أي الطول والعرض والارتفاع، إضافة إلى بعد الزمن) تكوّن معاً عالمنا الذي نعرفه. كما أن البعد الرابع (الزمن) لا ينعدم كما نتخيل بمجرد مرورنا به، أي أن اللحظات التي مررنا بها لم تصبح مجرد “ذكريات” منطبعة في أذهاننا ولم ينقضِ وجودها الواقعي، بل هي على العكس تماماً لا تزال تحتفظ بوجودها الفيزيائي الواقعي. كل ما في الأمر أن عقلنا لم يعد يدركها لأنه غير معد أو مبرمج على ذلك.
الأمر أشبه بشريط سينمائي، لو أن كل دقيقة في هذا الشريط تحتوي على 24 لقطة من الفيلم، نعلم أننا نشاهد لقطات متتابعة، ولكن لا يمكننا أن نرى في نفس اللحظة أكثر من لقطة واحدة فقط. فهل هذا يعني أن باقي اللقطات غير موجودة؟ بالطبع لا. فلو تخيلنا أن كل لقطة في هذا الفيلم تساوي ما نسميه نحن “العالم، الآن” وأننا بدلاً من أن نكون مجرد متفرجين أصبحنا أبطال الفيلم نعيش ونتحرك بداخله في أبعاده المكانية الثلاثة. لن نستطيع أن ندرك حسياً سوى اللقطة (اللحظة) التي تمر بنا فقط، وهذا بالضبط ما يحدث لنا في الواقع، و هذا لا يعني أن تلك اللحظة انعدمت فيزيئا بل لازالت موجودة لكن وجودها خارج استعداداتنا الادراكية الخلقية، و الشيء نفسه يمكن أن نقوله عن المستقبل.

و من هنا بدأ الحديث عن إمكان السفر في الزمن و العوالم الممكنة و الأكوان المتوازية ، كما قدم ستيفن هوكينغ نظرية الثقوب السوداء كوسيلة للسفر عبر الزمن باستغلال ظاهرة الثقوب السوداء(مساحة في الفضاء الخارجي تنشأ عن انفجار نجمي ضخم وتتمتع بجاذبية فائقة بحيث يسقط فيها كل جسم أو إشعاع يقترب منها وينعدم حجمه ليساوي الصفر تقريباً) و ذلك عن طريق إرسال سفينة فضاء في المستقبل إلى أحد أقرب تلك الثقوب إلينا والدوران حوله يؤدي إلى تباطؤ الزمن للرواد على متنها نسبة إلى سكان الأرض،كما انصبت بحوث أبو العلم الحديث نيكولا تيسلا حول ألة السفر في الزمن….قد يبدو للبعض أن هذا مجرد أحلام علماء، و الحقيقة أن المسألة الآن بالنسبة لهم مسألة وقت فقط و البحوث جارية على قدم و ساق بعيدا عن أعين المادية و العقلانية الصرفة.
كل هذه المقدمات المختصرة لبيان أن ما تقول عنه-أستاذ محمد- “علما “أصبح في عداد الماضي تجاوزته الفيزياء الكمية ،التي فسرت الكثير من الإشكالات التي لربما تبدو لنا مصادمة للعقل المادي، و لعل من أهمها معجزة الاسراء و المعراج موضوع ردي على الاستاذ الانجري -و كل المتأثرين بالبراديغم الغربي- و التي تؤكد أن هناك بالفعل من قد سافر في الزمن ،و أن ذلك يتطلب زيادة في السرعة تقارب سرعة الضوء -و هي إحدى نظريتي أينشتاين و يطرح نظرية تباطؤ الزمن عن طريق ضعف الجاذبية-و قد جاء في وصف البراق” أنه كان يضع حافره عند منتهى بصره”أي عند آخر ضوء يراه، و أن كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم من مشاهدات و محاورات كان حقيقة، و أن نوابغ الكموممين يتحدثون عن إمكان ذلك،و العلم المادي الذي كان يكذبه أصبح في خبر كان.
كما أن القول بتحول المادة إلى طاقة و العكس معناه إمكان اختراق العوالم عند ذلك و هذا تفسير علمي للاسراء و المعراج.

و أما القول أن ذلك تم مناما لا حقيقة انسجاما مع العلم –المادي- يعد جرأة على الله و تنقيصا من قدره ،فما الذي يعجز مكون الأكوان و خالق الانس و الجان من أن يجري على نبيه معجزة كهاته تحير العقول و تعجز العلوم .
أما ترى أستاذ الانجري إلى ما تمكن منه المخلوق الضعيف من اختراعات و طائرات و صواريخ و وسائل اتصال لو تحدثنا عنها إلى الناس قبل مائة سنة لعد ذلك جنونا و أحلاما و أوهاما ،و هي أمامنا الآن رأي العين،أيمكن لأمسترونغ أن يصل القمر بأدوات البشر و يستحيل في حق محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم أن يخترق عوالم السماء و يرى النور الإلهي”نور أنى أراه” و هو المستعين برب البشر و سخر له سيد ملائكة السماء جبريل عليه السلام”؟ !!!!!!
لو أن الاسراء و المعراج كان في المنام فقط فأين المعجزة إذن ؟، فهو سفر روحي يشترك فيه كل البشر مؤمنهم و كافرهم ،و ليس فقط الصوفية، و يتاح لهم الاطلاع على بعض عوالم الغيب،فقد رأى فرعون موسى ما رآه و رأى عزيز يوسف ما رآه و وقع مثلما رأيا و هما كافران،و حتى كارل يونغ مؤسس مدرسة علم النفس التحليلي يؤمن بمثل هذا و يسميها الأحلام التنبؤية.
لو أن الاسراء و المعراج كان في المنام فلماذا كذبه الناس و شك البعض و ارتد آخرون أ يمكن أن يصل الأمر إلى حد الردة لو لم يكن الأمر على الحقيقة ،و لما طلبوا منه أن يأتي بدليل صدقه ؟؟ !!! فأخبرهم صلى الله عليه و سلم أنه لقي قافلة و وصف لهم بيت المقدس.
لو كان الأمر مناما لما قال سيدنا ابو بكر مقولته الخالدة :لئن قالها فقد صدق إني أصدِّقه على أبعد من ذلك؛ أصدِّقه بخبر السماء غدوة أو روحة، فسُمِّي الصديق من يومئذٍ.
” ومما يدل على أن الإسراء تم بجسده في اليقظة قوله تعالى : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) الإسراء /1 ؛ والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح ، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح ؛ هذا هو المعروف عند الإطلاق ، وهو الصحيح ؛ فيكون الإسراء بهذا المجموع ، ولا يمتنع ذلك عقلا ، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة ؛ وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة وهو كفر ” انتهى من “شرح الطحاوية” (1/245).
الحقيقة التي لا جدال فيها الآن أن حولنا عوالم تحيط بنا لا قدرة لنا على الإحاطة بها و إدراكها ما لم نعرف القوانين الفيزيائية التي تخضع لها .و قد ثبت عندنا أن الحمير و الكلام ترى الشياطين و أن الديكة ترى الملائكة،و أن الانسان لا يملك ذلك لأن شبكية العين مهيئة لإدراك بعد الوجود ،و هذا لا يعني عدم وجود ما لم تدركه العيون لقصورها ،و لكن يمكن أن ندرك هذه العوالم إذا علمنا ميكانيزمات الرؤية عند هذه الحيوانان ،و نفذنا بسلطان العلم (لا تنفذون إلا بسلطان).
استاذ محمد العالم أحوج ما يكون إلينا كي نقدم له الاسلام على أصله دون مواربة ،هم أحوج إلى استلهام حقيقة الاسراء و المعراج لمعرفة سر وقوعها بأدوات العلم الحديثة.إن ما يجعل الانسان دائم البحث هو محاولات فهم قوانين الكون و خوارق العادات،و لولا ذلك لكان العلم محدود الأفاق،و لهذا قال البرت انشتاين :”الخيال أعظم من المعرفة” لأن الخيال هو ما يجعل نهم المعرفة مستمرا كي يصبح الخيال حقيقة.
إن الاسراء و المعراج مجرد خيال في نظر المادية،و مصدر الهام للفيزياء الكمية التي تسعى جاهدة إلى فك شفرته و معرفة سره، و هو معجزة حقيقية في نظر المسلمين أكرم بها الباري جل في علاه بها نبيه محمدا صل الله عليه و سلم.قال تعالى :(( ما زاغ البصر وما طغى (17)لقد رأى من آيات ربه الكبرى (18)” ))سورة النجم.
و صلى الله و سلم على محمد و آله و صحبه .

اترك رد