المساواة في الإرث مخالفة لأحكام الشريعة.. وإضرار بالمرأة و تحيز للرجل.. لأن فلسفة الإسلام في الميراث لا تأخد بمعيار الذكورة أو الأنوثة

بقلم: د. طارق ليساوي*

رأينا في المقالين السابق أن الإسلام غلب ميزان العدل و إستهدف تحقيق المساواة العادلة بدلا من المساواة المطلقة، و قد حاولنا توضيح هذه الفلسفة، و خاصة في جزئية توزيع الميراث، و هذا النقاش أملته الأحداث الأخيرة في تونس، إذ أقدم مجلس الوزراء برئاسة الرئيس″ السبسي” يوم الجمعة قبل الماضية، على تبني مسودة قانون الأحوال الشخصية و الذي تضمن أحكاما بالمساواة في الميراث بين الرجل و المرأة، و سيحاول هذا المقال تحليل هذه الجزئية المتصلة بالمساواة في الإرث بين الرجل و المرأة، لكن عبر توضيح الأنصبة و الحالات التي ترث فيها المرأة مثل الرجل أو أكثر منه، والحالات التي ترث فيها نصف ما يرث، إستنادا لقاعدة (للذكر مثل حظ الأنثيين)، و سنوضح بأن دعاة المساواة لايفقهون كثيرا من الحقائق عن الإسلام عامة و تصوره حول الفرائض و المواريث خاصة، فهذا التمييز ليس قاعدة مطردة في كل حالات الميراث ، و إنما هو في حالات خاصة و محدودة من بين حالات الميراث ، فالإسلام لم يوزع الأنصبة بالإعتماد على معيار الذكورة أو الأنوثة، و إنما إعتمد ضوابط و معايير أخرى سيفصلها المقال…

ولما كان كاتب المقال ليس من المتخصصين في الشريعة والفقه الإسلامي ، و لا يدعي الإلمام بالموضوع، و إن كان بحكم تخصصه في الإقتصاد و تدريسه لمادة الإقتصاد الإسلامي ليس بالبعيد عن فقه المواريث، على إعتبار أن الإرث أحد أليات توزيع الثروة في المجتمع الإسلامي و تحقيق العدالة الإجتماعية، و تفتيت تركز الثروة في يد الأقلية، و هو أداة فعالة في خلق دورة إقتصادية حميدة تتعدى المستفيدين/ الورثة، لتشمل المجتمع ككل عبر تحفيز العرض و الطلب و الإستثمار، و هو في أثره الإقتصادي و الإجتماعي لا يختلف عن الزكاة….

أولا – فلسفة الميراث الإسلامي تحكمه ثلاث معايير بعيدة عن الذكورة أو الأنوثة:

إن التحليل الدقيق و الموضوعي لفلسفة الإسلام في الميراث، يكشف أن التمايز في أنصبة الوارثين و الوارثات لا يرجع إلى معيار الذكورة أو الأنوثة ، و إنما الفلسفة الإسلامية في التوريث لها حِكَم إلهية ومقاصد ربانية لا يعلمها إلا الراسخون في العلم، و خُفِيت أو غابت عن الذين جعلوا التفاوت بين الذكور و الإناث في بعض مسائل الميراث وحالاته شبهة على كمال أهلية المرأة في الإسلام…وإستنادا لرأي علماء الفقه و الفرائض، فإن التفاوت بين أنصبة الوارثين والوارثات في فلسفة الميراث الإسلامي تحكمه ثلاثة معايير:

· درجة القرابة بين الوارث ذكراً أو أنثى وبين المُوًّرَّث المُتوفَّى، فكلما إقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث ، وكلما إبتعدت الصلة قل النصيب في الميراث دونما إعتبار لجنس الوارثين…

· موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال: فالأجيال التي تستقبل الحياة، و تستعد لتحمل أعبائها، عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تَسْتَدبِرُ الحياة، و تتخفف في أعبائها، بل و تصبح أعباؤها مفروضة على غيرها في الغالب، و ذلك بصرف النظر عن الذكورة أو الأنوثة للوارثين و الوارثات.. فعلى سبيل المثال بنت المتوفي ترث أكثر من أمه و كلتاهما أنثى، بل و ترث أكثر أب الأب، حتى و لو كان الأب هو مصدر الثروة التي للإبن، إذ تنفرد البنت بنصف التركة فهي ترث أكبر من أب الأب وهو ذكر، كما أن الإبن يرث أكثر من الأب وكلاهما من الذكور، و في ذلك حِگم إلهية و مقاصد ربانية سامية تخفي على الكثيرين…

·         العبء المالي الذي يوجب الشرع الإسلامي على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين، و هذا هو المعيار الوحيد الذي يثمر تفاوتا بين الذكر و الأنثى، لكنه تفاوت لا يفضي إلى أي ظلم للأنثى او إنتقاص من إنصافها، بل ربما كان العكس هو الصحيح..ففي حالة ما إذا اتفق و تساوى الوارثون في درجة القرابة، وإتفقوا و تساووا في موقع الجيل الوارث من تتابع الأجيال-مثل أولاد المُتوفَّى ذكورا و إناثا-يكون تفاوت العبء المالي هو سبب التفاوت في أنصبة الميراث.. و لذلك ، لم يعمم القران الكريم هذا التفاوت بين الذكر و الأنثى في عموم الوارثين ، وإنما حصره في هذه الحالة بالذات، فقال تعالى في محكم كتابه:   {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء : 11]، و لم تقل الأية : ” يوصيكم الله في عموم الوارثين ” و الحكمة في هذا التفاوت ، وفي هذه الحالة بالذات، هي أن الذكر مكلف بإعالة أنثى- هي زوجه- مع أولادها..بينما الأنثى الوارثة أخت الذكر- إعالتها مع أولادها، فريضة على الذكر المقترن بها ، و هو ما سبق ووضحناه في مقال سابق بعنوان” المساواة بين الرجل و المرأة مجانبة للصواب، فالعدل أشمل من المساواة “…فهي بالرغم من هذا النقص في ميراثها مقارنة بأخيها، الذي ورث ضعف ميراثها، أكثر حظاًّ و امتيازاً منه في الميراث ، فميراثها- مع إعفائها من الإنفاق الواجب- هو ذمة مالية خالصة و مدخرة، لجبر الإستضعاف الأنثوي، و لتأمين حياتها ضد المخاطر و التقلبات، و تلك حكمة إلهية تخفى على الكثيرين…

ثانيا- الإستقراء لحالات و مسائل الميراث يكشف أن دعوى المساواة دعوى باطلة و مضللة:

فصلنا في السابق فلسفة و حكمة الإسلام في تفاوت أنصبة الوارثين و الوارثات ، و هذه الحكمة يغفلها طرفا الغلو- الديني و اللاديني-، الذين بحسبون هذا التفاوت الجزئي شبهة تلحق بأهلية المرأة في الإسلام ، ذلك أن إستقراء حالات و مسائل الميراث ، كما جاءت في علم الفرائض و فصلها فقهاء المواريث، يكشف أن دعاة المساواة في الإرث يحملون أفكارا مسبقة و مغلوطة و مجانبة للصواب و للواقع، بل إن تبني المساواة في الإرث فيه إضرار بالمرأة وتحيز للرجل، ذلك أن الإستقراء لحالات و مسائل الميراث يسفر على الحقائق التالية:

· هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف ما يرث الرجل..

· هناك حالات أضعاف هذه الحالات ترث فيها المرأة مثل الرجل تماماً..

· هناك أكثر من عشر حالات ترث فيها المرأة أكثر من الرجل..

· هناك حالات ترث فيها المرأة و لايرث نظيرها من الرجال..

وهو ما يعني أن هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل أو أكثر منه، أو ترث هي و لا يرث نظيرها من الرجال، بينما الحالات التي ترث فيها المرأة نصف ما يرث الرجل لا تتعدى أربع حالات… وهي الخلاصة التي توصل إليها د.صلاح سلطان- فك الله أسره من سجون الظلم و الطغيان في مصر السيسي- في كتابه ” ميراث المرأة و قضية المساواة ” إذ قال: “.. بعد هذا الإستقراء الذي أورد أكثر من ثلاثين حالة ترث فيها المرأة مثل الرجل أو ترث أكثر منه أو ترث هي فقط و لايرث هو شيئاً، كل ذلك في مقابل أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف ميراث الرجل، لأسباب تتوافق مع الروافد الأخرى للشريعة الإسلامية التي تتكامل أجزاؤها في توازن دقيق لا يندّ عنه شيء ، و لايظلم طرفا لحساب أخر لأنها شريعة الله تعالى الحكيم العليم الخبير العدل..”

و خلاصة القول ، فإن النقاش حول المساواة بين الرجل و المرأة في الإرث نقاش غير ذي جدوى، و بعيد عن الواقع الذي تعانيه المرأة في المجتمعات الإسلامية، و محاولة ربط هضم حقوق المرأة بالإسلام فيه تضليل لعموم المسلمين، وهروب من التشخيص الحقيقي للواقع، و خدمة لأجندة التنصير و التبشير و أعداء الإسلام و في مقدمتهم الصهاينة واليهود قادة حزب الشيطان في كل العصور…

فالمجتمعات الإسلامية ما تخلفت و أصبحت في ذيل الأمم المتخلفة و المغلوبة، إلا بإبتعادها عن المنهج الذي جاء به الإسلام… و أذكر أني قبل نحو سبع سنوات ختمت بحثا للدكتوراه حول الإقتصاد الصيني بهذه العبارة  “بالرغم من نجاح الصين في تحقيق معدلات نمو اقتصادي معتبرة و اتساع حجم المكاسب المادية، إلا أن اتساع دائرة النزعة الفردانية و الاستهلاكية وتراجع مكانة الأسرة و التكافل الاجتماعي، سيجعل من هذه المكاسب الآنية خسائر على المدى الطويل ، ولذلك، فإن الصين وغيرها في حاجة إلى بديل حضاري أقوم و أسلم و أكثر عدلا..”، و لم أكن أعتقد آنذاك أن البديل بيد المسلمين، و إن كنت قد صرحت في بداية البحث بأن دورة الحضارة انتقلت من الغرب إلى الشرق، و من المؤكد أن عدواها ستصل إلى العالم العربي و الإسلامي…

فالعالم في حاجة إلى الإسلام و هذا ما لا يدركه غالبية المسلمين، فالإسلام دين الحرية و دين التسامح و العدل و الإخاء و المساواة، دين رسالته السلام، فهو الدين الوحيد الذي يملك إجابات واضحة لتطلعات مختلف الناس فهو دين الفطرة، و لعل أبرز دليل على ذلك هو مؤشرات انتشار الإسلام فبالرغم من الحملة المسعورة ضد الإسلام والمسلمين، إلا أن هذا الدين ينتشر كالنار في الهشيم، فبلدان بأكملها تتغير ديموغرافيتها لتصبح بلدان ذات غالبية إسلامية، وقد كانت بالأمس مسيحية الديانة ..فالخلل ليس في دين الإسلام فهذا الدين لازال يحتفظ بصلاحيته لبناء حضارة إنسانية تكفل للإنسان الكرامة و الحرية والاستقرار المادي و المعنوي…

إن الخلل ليس في الإسلام و إنما في المسلمين، الذين فهموا الدين خطأ و جعلوا نطاق الدين يتمحور حول العبادات الفردية، وأهملوا حقيقة أن الدين الإسلامي هو نمط حياة يشمل الدنيا  والآخرة و يغطي العبادات و المعاملات، و ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم، ويحدد الوظيفة الاجتماعية للموارد المالية، في دعوة صريحة لمناهضة الاستغلال و الاستعباد، و الدعوة للعدل و المساواة في توزيع الثروة الاقتصادية، وتحقيق التكافل الاجتماعي بما يضمن كرامة الإنسان و يوسع من خياراته..

فالتحدي الذي يواجه المسلمين ذا بعدين تحدي فردي و تحدي جماعي، فأما التحدي الفردي فعلى الفرد أن يفهم هذا الدين فهما صحيحا، لا بالاتكال على وراثة الدين والعقيدة، فالله يعبد على علم، و الإسلام دين العلم و القراءة و على كل مسلم أن يدرس هذا الدين، و في ذلك فائدتين: الأولى الفوز بهذه المكانة التي أخبر بها الرسول عليه الصلاة و السلام حينما قال : ” مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا , سَلَكَ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتِهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانِ فِي جَوْفِ الْمَاءِ ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا ، وَلا دِرْهَمًا ، وَأَوْرَثُوا الْعِلْمَ , فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ” .  والثانية سد الباب أمام الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام من قبل أعداءه، فالتطرف و الغلو في الدين هو نتاج للجهل بحقيقة الدين الإسلامي واتساع دائرة التطرف هو محاولة لتحريف حقيقة الدين في عقول المسلمين بعدما عجزوا عن تحريف النص لان الله تعالى هو من تولى حفظ هذا الدين “..إنا نحن نزلنا “

و التحدي الجماعي هو بناء مجتمعات منسجمة مع رسالة الإسلام القائمة على العدل و العبودية لله وحده، مجتمعات تحترم الإنسان وكرامته و حريته، مجتمعات يكون فيها الاقتصاد في خدمة الجماعة و غايته إشباع حاجيات الجميع و ليس اقتصاد القلة المسيطرة، مجتمع يكون الحكم فيه و التداول على السلطة بالاختيار الحر و النزيه من قبل عامة المسلمين، مجتمع لكل مواطنيه حتى أولئك الدين لا يدينون بدين الإسلام ، مجتمع تحركه عقيدة ورؤية حضارية عالمية، شعارها تلك العبارة الخالدة التي قالها ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس في معركة القادسية ، إذ قال :” نحن قوم  ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتَها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام”  و لعل هذه  بعضا من العبر التي على كل مسلم استخلاصها من الجدل العقيم الدائر حول المساواة في الإرث بين الرجل و المرأة …و الله غالب على أمره..

*إعلامي و أكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي

اترك رد