الوليمة الملعونة

بقلم: رشيد السليم

يقال إن الجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه والمرء عدو ما يجهل، وليمة فخمة على شرف الحاضرين في مؤتمر علمي، كنت أحد الموجودين هناك وكادت الوليمة الملعونة أن ترسلني إلى العالم السفلي لولا بعد أجلي عن ذلك الموعد.

على مائدة العشاء اجتمعت وبعض الطلبة وأستاذا جامعيا واحدا، عندما وضع الطبق العجيب أمامنا تبادلنا نظرات وابتسامات ملؤها الإحراج مما رأيناه من طيبات ما أحل الله، التفتّ إلى أحدهم وهمست له أنني تعرفت على شيئين من ذلك الفسيفساء المأكول، فأخبرني على طريقتي بأنه تعرف على شيء واحد وأشار إلى الطماطم، أوشك الضحك يخنقني وأنا أتمالكه، كأن طعام العلماء يقدم على هيأة المعادلات الصعبة، تمكث مدة لكي تستوعب السؤال فقط؛ ثم تشرع في التفكير من أين تأكل الكتف، أحس الأستاذ الجالس بيننا بصعوبة الموقف الذي نحن فيه فأخذ يشرح العملية بطريقة غير مباشرة، فانتهجنا سبيله وكأننا في ورشة حرفية، كان الأستاذ في منتهى المروءة والذكاء فلم يرفع بصره نحو الأعين التي تتابعه خشية على النفوس المكلومة من فرط الحرمان.

بدأت الأيادي والأفواه تنشط على إيقاع الشوكة والسكين شيئا فشيئا، لم أكن أعرف من معظم ما أحشده في فمي غير المذاقات العامة؛ الحلو والحامض والمالح، أما النكهات فلا قبل لي باستيعابها، أذكر أنني ابتلعت شيئا غريبا مثل الجبن ظلت قطعته متربصة في منتصف صدري كأنها تتوجس خيفة من ولوج معدة مجهولة، حاولت التحايل عليها بتنظيم تنفسي لتنزل دون إثارة انتباه أنني في ورطة، ففاجئني الأستاذ بكأس الماء، وكأن القطعة كانت مكدسة في صدره لا في صدري، تمكنت من شكره بصوت مهموس قسرا، وعجلت بالكأس إلى شفتين مرتعدتين وعينين جاحظتين، فأحيا الماء بدنا أشرف على تسليم روحه، عدت إلى جو الابتلاع مباشرة وكأن شيئا لم يحدث، لكنني صغرت اللقم وبالغت في المضغ مستفيدا من التجربة، جاء النادل بطبق آخر بعدما تكشف الطبق الأول عن رداء الخس اليانع، وكانت الوجبة بسطيلة فواكه البحر التي طالما سمعت بها، حددت بعيني مكان كأس الماء تحسبا لأي طارئ ثم أمسكت شوكتي ومضيت أنهش بها رداء البسطيلة الذي يكسو حشوة تعد الأشهى والأندر في بنية الوعي الغذائي عندنا ــ نحن المغاربة ــ ، في الواقع أفلحت الشوكة فقط في اختراق الرداء ولكنها لم تكن أمينة في استخراج المكنون، فغيرتها بالملعقة متجاهلا ما قد يلاحظ عني من سوء التزام بقواعد اللعبة في تلك الأوساط والمقامات، لم يكن البروتوكول ولا الإيتيكيت بالنسبة إلي سوى سلوك طبقي تافه لم يوضع لشخص مثلي، لقد أبلت الملعقة بلاء حسنا، وقدمت من الوفاء والإمتاع والإقناع ما بدا أثره واضحا على وجهي من علامات الرضى والسعادة، وما هي إلا ملعقتين أو ثلاث حتى صرت نموذجا يحتذى به من قبل الجميع بمن فيهم الأستاذ، كنت أدرك أن أغلب الجالسين كانوا سيصابون بالجلطة حسرة لو ظلوا بالشوكة حتى النهاية…

وضعت الملعقة وليس في الصحن ما تعود به، رفعت رأسي أخيرا إلى الوجوه، فإذا وجناتها متوردة وقد اختفى شحوبها، والشفاه تكظم ابتسامات لا يعرف سرها غيرنا، وسرعان ما صار الكل يحبس أنفاسه تفاديا لضحكات انفجارية عندما شاهدنا طبقا من فواكه البر يحجب عنا رأس القادم به إلينا، فازدادت الوجوه احمرارا، هدأ الشعور بالرغبة في الضحك، وانسجمنا في التقاط حبات العنب منعدمة البذور وكانت بحجم برتقالات صغيرات تزاحم الألسنة والأضراس، أخذت من الطبق موزة وكأني أمسك بين يدي ذراع شخص رياضي، وأنا أعلم أن ليس لها حيز في جوف أحدنا، قشرتها إلى النصف، وقدمتها هدية إلى زميلي عارضا معها ابتسامة متعددة الأبعاد، نظر إليها ثم إلي، فغلبته نوبة من الضحك ولم يتمكن من ضبط نفسه ولا تنفسه فأشرق في حبة العنب المعصورة في فمه واختلطت علينا أصوات حنجرته بين ضحك وسعال، وضعت الموزة على المائدة بسرعة وقدته إلى المغسل على عجل محاولا مداراة الضجة، تبعني آخرون بذريعة الإسعاف، أغلقنا باب المغسل خلفنا وضربنا مختنقنا بين كتفيه وعلى قفاه حتى ارتمت حبة العنب المدهوسة أمامنا على الأرض، وانطلقت معها نوبات الضحك المتطرفة المكتومة طوال الوقت فصرنا كالمهلوسين المجانين، وبالكاد استطعنا العودة إلى أماكننا بحالة طبيعية…

مرت الوليمة وبقيت ذكراها، وأدركت أن أغنية ” أحن إلى خبز أمي…” لا تمثل حقيقة ذات قيمة إنسانية، فبعد هذه الإطلالة على عوالم النغنغة والعز؛ هل من المعقول أن يحن محروم إلى خبز أمه أو قهوتها؟ ربما ما كان ليحن إلى أمه أصلا.

اترك رد