انا احتقر الاسلام… إذن أنا تنويري

 بقلم: نور الدين الحاتمي

     لماذا لا يكون التنوير إلا باحتقار الاسلام ومحاولة النيل منه؟ لماذا لا يكون هناك سبيل الى التنوير إلا بالمرور عبر الاستهزاء بالإسلام والطعن فيه والتشكيك في اصوله وقواعده؟ هل شرط التنوير هو بالضرورة القطع مع الاسلام والتراث الذي خلفه رجاله واعلامه؟ وهل صحيح أن هذا التراث يهدد امن الناس وحياتهم واستقرارهم؟ و هل صحيح أيضا أن هذا الامن وهذا الاستقرار رهينان بتصفية الحساب مع هذا الموروث الثقافي العظيم ؟

     أحسب أن كل من يطلع على الإنتاجات الفكرية التي تخلفها عقول النخبة المتنورة على طول امتداد الوطن العربي، يلحظ ان القاسم المشترك بينها هو التكتل من أجل الدعوة إلى تصفية الحساب مع التراث الفكري والذهني الذي تركه لنا اجدادنا، إن لم نقل مع الدين الاسلامي نفسه،  وأنه بنظرة واحدة، فقط ، تبدو هذه القضية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.

    قبل عقود كان الحديث عن هذا الموضوع يرتبط مباشرة بمعادلة الوجود او الهوية، أو التقدم والتأخر، وكان من يدعو الى هذا الموضوع يفترض أن ولوج العصر والانخراط في التاريخ يقتضي التضحية بالهوية والتراث من حيث هو أهم ركائزها، وكان الخيار هنا واضحا، إما الهوية وإما الوجود في العصر والتاريخ، مع إيمان هذا الخطاب أن الهوية معيقة عن التطور ومانعة من التغيير، في حين كان اخرون يرون ان هذا الانخراط في العصر والمغامرة في مشروع النهضة مرتبطان  ضرورة، بالانتظام في هذا التراث و في إعادة ترتيبه وقراءته بطريقة ملائمة تجعله معاصرا ، ولا شك أن هذا الموقف الاخير، هو الأكثر عقلانية ومعقولية، بين المواقف التي اتخذت في مواجهة ومجابة التراث.

    وقبل عقود أيضا كان الذين يقتحمون مجال نقد التراث العربي الاسلامي، ويخوضون مغامرة هذا النقد، من النخبة المثقفة حقيقة، ومن الأسماء الوازنة في الفكر و المعرفة العربيين وكان المثقفون العرب لا يجرؤون على هذه التجربة حتى يشعروا ان بإمكانهم ان يقدموا جديدا و أن يضيفوا نوعيا في هذا الموضوع.

     اليوم، لم يعد موضوع التراث موضوعا محترما ومهيبا ، ويتعامل الناس معه بنوع من القدسية التي تعود العرب ان ينظروا بها الى موروثهم الاسلامي، وأصبح كل من أحس في نفسه القدرة على القول، والقدرة على صوغ الكلمات والعبارات وبناء المقالات بها، جسورا على الافتراء والكذب على هذا التراث، بل والاسلام نفسه، وهو الذي جعل العرب امة عظيمة وصنع لها معجزتها التي تفخر بها بين الأمم والشعوب.

    اليوم، بعض من أشباه المثقفين يتهمون التراث بطريقة مباشرة و سافرة، ويحملونه المسؤولية في المساس بأمن الناس وتهديد سلامتهم، ويدعون أن هذا التراث هو الذي يقف وراء الارهاب والتكفير …والواقع ان هذا الاتهام المباشر للإسلام وتراثه ليس يبين جهل اصحاب هذا الراي وتهافت خطابهم فقط، وإنما يبين تحاملهم على الحقيقة ، فكم عدد الذين يتورطون في المساس بأمن الناس ؟ كم نسبتهم من مجموع سكان المغرب[ كنموذج لشعوب العرب والمسلمين] الذين تتشكل هويتهم من هذا التراث؟ فلو كان هذا التراث مسؤولا عن الارهاب لكان المغاربة جميعهم ارهابيين ويتبنون خطابه.

الشعب المغربي، كنموذج للشعوب العربية والاسلامية يفتخر بتراثه ويعتز به، ويتبناه بكل مضامينه وحمولاته، ولا ينكر منه أي شيء، ومع ذلك فإنه من أكثر شعوب العالم مسالمة وتسامحا، كما يشهد بذلك جل من زاره، ورجال الدين الذين يعكفون على تدريس فتاوى الجهاد والتكفير ويسرفون في شرحها، لا علاقة لهم بها على مستوى معيشتهم وممارساتهم.

  أكثر مشايخ التيار السلفي، كنموذج  يروج الفتاوى التي تذهب في اتجاه تكفير تارك الصلاة واهدار دمه، و تضخ الدماء في المواقف التي تذهب إلى قتل [المرتد] ومع ذلك فأن ابناءهم عندما لا يعبأون باختياراتهم الفقهية، ولا يعملون بها بل يكفرون بها ، فإنهم  لا يتعاملون معهم حسب ما تقتضيه الفتاوى، وإنما بطريقة موغلة في العلمنة، أي أن تلك الفتاوى الفقهية  تظل، فقط، للاستهلاك في الجوامع واحياء ليالي السمر.

    لو صح أن التراث يقف وراء تهديد سلامة الناس، فمن من هؤلاء الناس الذين تتهدد سلامتهم ، وهم جلهم فيما نحسب يؤمنون بهذا التراث ولا يخجلون منه؟ لو صح ذلك، لكان رجال الدين اولئك متورطين في الدماء، و لكانوا أول من يحمل السلاح لقتل الناس وبقر بطونهم، وبحيث ان هذا لا وجود له، فإن هذه الفرضية تبقى مجرد فرية .

   رجال الدين ما فتؤوا  يرددون أن الحكام لا يتوفرون على شروط توليتهم حكاما، وهم يدرسون هذه الشروط في مجالسهم ويلقنونها لطلبتهم، وهم مع ذلك لا تعنيهم في شيء.

    لقد تعايش الناس مع تلك الفتاوى وتناقشوها وتناقلوها، وربي الناس عليها. ومع ذلك، لم تكن أبدا دافعة لهم لتعريض حياة  الناس للخطرـ كما يقول محمد سليم العوا ـ وقبل ظهور الحركات الاسلامية المطالبة بالتغيير تحت عناوين الاسلام ومفرداته، كان الجميع يعتبر الاسلام افيونا ومخدرا وانه وراء الخرافة والدروشة، كما لا حظ بحق برهان غليون.

    التراث الاسلامي زاخر بالنصوص الثورية وغير الثورية، فلماذا يعود الناس الى الجانب الثوري والقيم الثورية، في حين يصمتون تماما عن غيرها، من قيم الخنوع والذلة؟ لماذا يتم استدعاء النصوص الغاضبة اليوم بالذات؟ لماذا لا ترى الجماهير الا الجانب الثوري المضيء، ولا تهتم نهائيا بغيرها؟ لا شك أن الناس تستدعي تلك النصوص بالذات لأنها في حاجة إليها ، أي لأنها هي التي تعبر عنها وعن همومها و آلامها .

    الذي يشكل اليوم تهديدا مباشرا، هو الهوان الذي نشربه ونتنفسه، وهو الذل والانسحاق اللذان بتنا نعيش عليهما وعلى وقعهما ، وبالتالي من يشعر أنه غارق في هذا الذل ويتجرعه، ومطلوب منه أن يقاومه، هو الذي يجد نفسه قريبا من النصوص التي كتبتها اقلام الثائرين على العبودية، ويجد نفسه في تلك الاسماء التي خلفت تلك النصوص، في حين أن غير المنسحقين ـ او المنسحقين ـ الذين لم يجربوا الحرية ، ولم يدركوا أنهم عبيد يلزمهم الانتفاضة من أجل حريتهم، لا يرون انفسهم إلا في النصوص التي لا تفضحهم، ولا تفضح خستهم وذلتهم، ولا تعري ما هم عليه من الضعف، وبالتالي، يعملون على تبنيها والدعوة اليها وترويجها بين الناس.

   لا شك أن التراث، فيه الغث وفيه السمين ،فيه الساكن وفيه المتحرك ، فيه الثوري وفيه المهادن ، فيه اليمين وفيه اليسار، إنه يحتوي على كل ذلك، لأنه تعبير واضح وسافر عن المجتمع، وتأريخ للصراعات التي تدور بين فرقائه وطبقاته ومكوناته.

   وإن التناقض الذي يبدو عليه التراث، هو تنافض تقتضيه طبيعة المجتمع نفسه، وهو دليل الحيوية التي كان المجتمع الاسلامي يعرفها ،و ربما كان هذا التناقض هو سر غناه وقوته،  بل سر عبقريته،  حيث يجد كل واحد من الناس نفسه و ضالته التي ـ ينشدهاـ  فيه.

   والمثقف الذي يعكف اليوم على هدمه وتشويهه، ربما كان عارفا بهذا التنوع والغنى، وربما لا، إلا أنه ليس معنيا بضرورة ان يعرف. إنه معني، فقط، بهذا الهدم والتشويه، ولذلك فإن وصفه بالمثقف، فيه تجن على هذا المفهوم نفسه. إن المثقف الذي يقدم نفسه اليوم، انه تنويري، فقط لأنه يهاجم الاسلام ويسعى للنيل منه، ليس أصيلا، وإنما هو نموذج ممسوخ صنع الغرب قالبه، اذ لا شك أن الغرب هو الذي يقدم لنا مثال المثقف الذي ينبغي ان نحذو حذوه، ونتبع أثره وننبهر به، ولا يكون هذا المثقف إلا ذلك الذي لا شغل له، سوى تسفيه الاسلام وتسفيه تراثه، كما لا حظ الشهيد شريعتي.

  إن مثقفا كهذا، أي كهذا الذي يندب نفسه للتشكيك في الإسلام ـ الذي نعرف في كتاب الله وسنة رسول الله ـ لن يجدع إلا أنفه ولن يقطع إلا كفه ـكما تقول العرب. ينبغي أن يدرك المثقف أنه مسؤول أمام الله وامام الحقيقة وأمام التاريخ وأمام الجماهير. وأن خداعها أو محاولة خداعها هو بالضرورة خيانة للمثقف نفسه وخيانة لوظيفته ورسالته قبل كل ذلك.

اترك رد