زيارة البابا … زيارة ناقصة

بقلم: عبدالله الجباري

بترتيب مسبق بين المملكة المغربية والفاتيكان، قام البابا بزيارة رسمية إلى المملكة المغربية أواخر مارس 2019، وعرفت زيارته أنشطة مكثفة، منها حضوره مع الملك في معهد الأئمة والمرشدين التابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لحفل أثار نقاشا كثيرا، على مستوى الواقع وعلى مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، وتميز هذا النقاش باختلاف حاد بين وجهات النظر المتباينة، كما صدرت بشأنه بيانات، منها بيان رابطة علماء المسلمين، وبيان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

غض كثير من المناقشين الطرف عن بيان الرابطة، وركزوا على الاتحاد، وهي مسألة متفهمة، نظرا للاستقطاب الحاد الذي عرفته الأمة بعد الأزمة السعودية/الإماراتية – القطرية، وكثير من كتاباتهم تنأى عن العلمية وتسقط في باب “أخطأ الاتحاد ولو أصاب”، وأحيانا يلجأون إلى الكتابة بأسلوب الأجهزة، مثل كتابة الأستاذ مصطفى شنضيض التي قال فيها: “أفنسي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أنه ليس من تخصصه التدخل في سيادات الدول المسلمة على أرضها، وأنها لم يبايعها المسلمون حتى تتكلم باسمهم”. والصواب أن يقول: “وأنه لم يبايعه .. يتكلم”، ولعل السرعة، أو التسرع على وجه أدق، فرضا عليه هذه الرطانة.

هذه الفقرة هي أبعد ما يكون عن الكتابة العلمية، لأن نقد سياسات الدول حق مكفول أخلاقيا وديمقراطيا، ومن يكتب مثل هذه الفقرة برطانتها، فإنه يفرز استبداده الثاوي في داخله، والذي يغشيه بغشاء من التنوير الذي سرعان ما يُكتشف زيفه.

إن انتقاد سياسات الدول كيفما كانت لا يعدّ تدخلا في سيادة الدول على أرضها، ولا يصدر هذا الكلام عن إنسان يعرف قيم الديمقراطية والحرية والتعددية والاختلاف.

أما ربط انتقاد سياسة دولة ما بضرورة الحصول على بيعة خاصة، فهو تفكير قروسطي محض، يخفيه أصحابه بمساحيق من “الحداثة” و”التنوير”، مثل الوجه كثير التجاعيد الذي يتخفى وراء طبقات سميكة من الماكياج، سرعان ما ينفضح حاله، وتنكشف تجاعيده.

تضمنت تلك الأمسية مقطعا يقدم فيه شاب مغربي الجزء الأول من الأذان، وتلته سيدتان في وصلة أداء ترانيم نصرانية ويهودية، مع تشابك أيديهم في الختام، وكل هذا كان مصحوبا بعزف مجموعة من الموسيقيين.

شخصيا، لم ترقني هذه المقاطع، وهذا من حقي الذي لن يصادره أحد. وذلك لما فيها من تمييع لمعاني التعايبش والتسامح نفسيهما.

ونظرا لما عرفته هذه المقاطع من ضعف في التأثير، فقد تولى جبر كسرها وتعويض نقصها مجموعة من الفاعلين الإعلاميين، والمحللين والكتاب، وذلك بالتركيز على عبارات من قبيل: لقطة مؤثرة – لحظة خشوع- لحظة وجدانية مفعمة بمعاني – لقطة تحبس الأنفاس … وهذه تقنية إعلامية معروفة في الإعلام غير المستقل.

ورغم هذه المساحيق الإعلامية، استمر كثير من المتتبعين في إعلان رفضهم للحادث، وتنديدهم بإدراج الأذان –وهو شعيرة إسلامية- مع الترانيم، فتولى بعض الكتاب الرد على هذه الفكرة الواردة في بيان الاتحاد العالمي أو في تدوينات وتعليقات عامة الناس.

ركزت التوضيحات – ومنها منشور ذ. شنضيض- على الآتي:

** ما ذكره الشاب ليس أذانا، بل هي مجرد ابتهالات تتضمن التكبير والشهادتين.

** جرت عادة المسلمين إدماج الابتهالات مع العزف، بإقرار مجموعة من العلماء.

** جواز العزف، وعدم تحريمه وفاقا لعدد من العلماء.

وهذه الحيثيات لا أراها توضيحات، بقدر ما هي تلبيسات صدرت عن باحثين، ومنهم أصدقاء أعتز بصداقتهم.

** بالنسبة للأذان، المقطع الذي أداه ذلك الشاب هو جزء من الأذان، وأداه بصيغة الأذان، وهو لم يكمله ليس لأنه مجرد ابتهال، بل مراعاة للاختصار، رفقا بأجندة البابا أولا، ومراعاة للاختصار الذي تعرفه مثل هذه الأنشطة الرسمية. والاختصار ذاته عرفته ترانيم السيدتين اليهودية والنصرانية. وغير هذا مجرد ذر الرماد في العيون. ولو أكملوا الأذان والترانيم، لبقي الحفل ثلاثة أضعاف مدّته، وأصحاب البروتوكول يعرفون سلبيات هذا التطويل.

** بالنسبة لجواز العزف، حاول ذ. شنضيض جاهدا لبيان شرعيته، حتى يبرهن لعامة القراء ويترك في انطباعهم أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يجهل أوليات أساس ولا يعرفها، وهذا تلبيس آخر أيضا، لأنه ذكر في ثنايا مرافعته أن راويا من رواة الحديث المعتمدين كان وإخوته إضافة إلى أعلام آخرين ممن يستمعون إلى المعازف والغناء، وهذه أحداث تاريخية صحيحة لا يكابر أحد في إنكارها، لكن هل كان أولئك الرواة والأعلام يمارسون ذلك العزف وينصتون إليه باختلاط بين الجنسين متشابكي الأيدي؟ وهل كانوا يمارسونه مع نساء عاريات الصدور من غير ديانتهم؟ وهل كانوا يخلطونه بالترانيم التي يتعبد بها أولئك؟

كل هذا لم يوجد، ولو وجد لكان من خوارم المروءة المسقطة لذاك الراوي، ولتم رمي حديثه عرض الحائط، وهذا يعرفه جيدا هؤلاء الكتاب ولم يذكروه، لذا كان كلامهم تلبيسا.

أما محاولة نيل الشرعية بعمل الصوفية، فهو تقو|ُل عليهم رضي الله عنهم، لأنهم وإن أجاز بعضهم – لا كلهم- الابتهالات والأذكار المقترنة بالمعازف، فإنهم لم يبيحوا للذاكرين الاختلاط بالنساء، وتشبيك أصابعهم وأصابعهن، ومشاهدة صدورهن العارية إلى حدود أثدائهن، وكانوا يحرصون على الفصل بين النساء والرجال بجدار أو رواق.

هذا الاختلاط والتشبيك والتعري كان تمييعا لذلك النشاط، أبعد عنه كل روحانية أو خشوع، أضف إلى ذلك أن المرأة الراهبة ترتدي عادة غطاء الرأس، ولا تظهر عارية الصدر، بخلاف ما وقع في الحفل المذكور. مما يعضد فكرة التمييع.

ولنا أن نتساءل عن السر وراء اختيار شاب وشابتين، لماذا لم يستدعوا مسيحيا ويهوديا مع المسلم؟ أو لماذا لم يُحضروا مسلمة مع اليهودية والنصرانية؟ ولماذا لم يفرضوا على الفتاتين أو ينبهوهن إلى ضرورة تغطية صدورهن وشعورهن؟ ألسيت اللحظة لحظة خشوع؟

وبعض الكُتاب حاولوا أن يهربوا إلى العموميات للدفاع عن الحفل، وذلك بتكرار كلمة الجمال والجمالية، وهذا من باب التسويغ لا أقل ولا أكثر، وما عرفته زيارة البابا من ترحيل الناس من أقاليم بعيدة، وسهرهم الليل، ومكثهم مدة تحت المطر، والتحافهم أحيانا بأكياس البلاستيك حماية لأنفسهم من البلل، وإخلاء بعض المحطات الطرقية من الحافلات، ما خلق أزمة للمسافرين، كل هذه المظاهر وغيرها تنقض مسألة الجمالية.

أما منتقدو الحفل، فلم يكونوا أحسن حالا من المُثنين عليه، خصوصا حين لوحوا بالتكفير في غير ما منشور، وقد ووجهوا بقسوة من مخالفيهم، وكان حريا الرفق بهم، خصوصا أنهم لم يحيدوا عن المذهب المالكي، ولم يحيدوا عن أقوال سلاطينهم ومنهجهم. ولنا أمثلة على ذلك:

أولا: من قال اليوم بتحريم الأغاني والمعازف، لم ينْأَ عن منهج السلطان المولى سليمان العلوي، الذي ألّف رسالة بعنوان “إمتاع الأسماع بتحرير ما التبس من حكم السماع”، رجح من خلالها تحريم الغناء، ودعا العلماء والرعايا إلى اجتنابه، وقال فيه: “وعليه اقتصر غير واحد من أكابر المالكية”. والسؤال هو: من وصف محرمي الغناء اليوم بالتطرف والغلو والدعشنة، هل يستطيع أن يوجه نفس النعوت إلى المولى سليمان وإلى أكابر المالكية؟

ثانيا: كان للسلطان المولى الحسن موقفا متشددا من اليهود، ولما أراد بعضهم في ملاح فاس العليا أن ينصبوا حزانا وتاجرين من تجارهم في الملاح للحكم فيما يعرض عليهم من سرقة وغيرها، لم يستسغ منهم ذلك، لأنه يريد أن يفرض عليهم أحكام الشريعة الإسلامية، فطلب من القاضي ومن مجموعة من الفقهاء يوم 6 ربيع الثاني 1300هـ رأيهم في الموضوع، فأجابوه، ومنهم جعفر الكتاني، الذي خلص إلى أنه لا يجوز “أن يولوا من يحكم بينهم”، إلى أن قال: “وبالجملة، فكل وصف يخرجهم عن الذل والصغار يمنعون من ارتكابه”، ولم يقل كلامه هذا ابتداعا منه، بل كتابه مليئ بأقوال المالكية، وهم عمدته، وعلى ذلك وافق الحسن الأول. والسؤال هو: من وصف منتقدي التعامل مع البابا اليوم ووصفهم بأنهم بعيدون عن التعايش والتسامح، هل يستطيعون أن ينعتوا الحسن الأول وفقهاءه بتلك النعوت؟

ثالثا: بعض المتحمسين صدرت عنهم أقوال غاية في الشذوذ، وَوُوجهوا من قبل المخالفين بالنعوت السابقة، مع العلم أنهم لم يقولوا سوى ما قاله علماء المذهب الرسمي في المغرب، ولم يقولوا سوى ما وجدوه في مطبوعات وزارة الأوقاف المغربية، مثال ذلك:

ورد في نوازل الورزازي المطبوع من قبل وزارة الأوقاف المغربية سنة 2016 (ليس طبعة قديمة) ص: 240: “قال الإمام أبو القاسم العبدوسي مفتي تونس: لا يجوز أن تمكن اليهود من أن يحدثوا معبدا لهم في بلاد المسلمين، ولا أن يصلحوا ما خرب منه، وإذا نهوا عن ذلك ولم ينتهوا كان نقضا لذمتهم، فتكون أموالهم وذراريهم ونساؤهم للمسلمين على حكم الحربيين في بلاد الحرب، وقد أفتى الشيوخ المغاربة قبل هذا بأن اليهود لا ذمة لهم فيما دون هذا، فما ظنك بهذا، ومن أعانهم أو نصرهم معتقدا حلية ذلك فهو كافر، وإلا فهو فاسق…، وقال الإمام السيد عبد الله العبدوسي أخو الإمام الأول: “إذا ظهر من بعض أهل الذمة ما يكون نقضا لذمتهم، كان ذلك نقضا لذمة جميعهم، ولا يختص به من ظهر منه، وحكم أموالهم لمن أخذها حكم الغنيمة، يعطي خمسها لأهل بيت المال مثل الشرفاء، والباقي له”. ثم زاد الورزازي ويا لخطورة ما زاد: “قال الإمام التادلي: لا يتوقف النهي عن المنكر على إذن من له الإذن، بل من له القدرة على القيام به، يجب عليه النهي بلا إذن”. فهل يحتاج هذا النص إلى تحليل؟ إنه تراثنا الفقهي الذي يستلهمه كثير من المعاصرين، ولما دعا أستاذنا الدكتور الريسوني إلى تجديد جزء مهم منه، ثارت ثائرة كثير من المحافظين والتنويريين على السواء.

الزيارة الناقصة

زيارة البابا كانت زيارة بروتوكولية، ولم تكن زيارة ذات أثر فعال، كما كانت زيارة البابا السابق في عهد المالك السابق.

في الوعي الجمعي الإسلامي أن النصارى كفار، وبعض “الحداثيين” يسوقون الأوهام للمغاربة، بدعوى أن المسلمين يرون غيرهم كفارا، في حين أنهم مؤمنون أيضا، وهذه الخطابات تندرج إما في جلد الذات، أو في الاستلاب الفكري الذي يعاني منه أولئك “المثقفون”، والواقع أن النصارى أيضا يعتبرون المسلمين كفارا، وأنهم لن يدخلوا الجنة ولن يشموا ريحها، فلِم جلد الذات وتشويهها أمام العالم وأمام الذات أيضا؟

كما يروج بعض المثقفين المسلمين والمنتمين جغرافيا إلى العالم الإسلامي مسألةَ ربط الإسلام بالعنف، في حين أن ممارسة الكنيسة للعنف ومباركتها له أضعاف مضاعفة لما صدر من المسلمين، فلِم جلد الذات أيضا؟

انتهت الزيارة وبقي ما في الوعي الجمعي راسخا ومترسخا، ولم يتغير شيء.

لذا أعتبرها زيارة ناقصة، وكان حريا بالمشرفين عليها أن يبرمجوا معها وعلى هامشها ندوات علمية حول مواضيع ذات أهمية وراهنية، تواكبها وسائل إعلام مستقلة، ويشارك فيها أكاديميون وكرادلة ورهبان متخصصون في علم الكلام والتاريخ المسيحيين، مع علماء متخصصين في الشريعة الإسلامية، وباحثين في التاريخ الإسلامي، لِما لهذه الندوات من دور في التجسير الثقافي، ومن تحقيق التسامح والتعايش الحقيقيين.

كما أعتبرها ناقصة، لأنها اهتمت بالتعايش والتسامح مع الآخر، وغني عن البيان أن التعايش والتسامح مع الآخر لا يمكن أن يتحقق إلا إذا مارسه الإنسان مع ذاته أولا، لذا كان حريا بالمغرب أن يقدم على خطوة مهمة في هذا الباب تجاه إخواننا في الريف وجرادة، كما على الكرادلة أن يهتموا كثيرا بالتعايش والتسامح مع الأطفال حتى يبتعدوا عن البيدوفيليا التي تُلصق بهم في الإعلام الغربي نفسه.

اترك رد