علماء المذهبية والنوازل المعاصرة – الحلقة الأولى

بقلم: الحسن شهبار

كنت نشرت منشورا ذكرت فيه أثرا عن عروة بن الزبير رضي الله عنه يعارض فيه عبد الله بن عباس رضي الله عنه في مسألة فقهية، ويقول له: أبو بكر وعمر أعلم مني ومنك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم..
ثم ثار نقاش بخصوص هذه المسألة، وكان مما طرحه أحد الأساتذة الفضلاء كيف نفعل في القضايا المعاصرة إذا ألزمنا الناس بتقليد المذاهب الفقهية؟ ووعدته أن أذكر له في منشور مستقل واحدا من العلماء المالكية المعاصرين ودوره في الإجابة على كثير من النوازل المعاصرة.
وهذا العالم الذي اخترته للمثال هو العلامة الإمام والأستاذ المربي سيدي محمد التاويل رحمه الله رحمة واسعة وغفر له.. هذا العالم الجليل يلقبه تلامذته بشيخ الجماعة، وسمعت العلامة الشيخ سيدي محمد العمراوي يقول عنه يوم دفنه “خاتمة الحفاظ في المذهب المالكي بالمغرب”، وذكر لي أستاذي الدكتور سيدي محمد أبياط حفظه الله وهو تلميذ الشيخ، أنه ما رأى أستاذه التاويل يوما يلقي درسا وهو يقرأ في ورقة!! وقد شاهدت بعض دروسه العلمية المسجلة بالصوت والصورة فوجدته رحمه الله كما قال الدكتور أبياط، حتى أنه ليخيل لسامعه وهو لا يراه أن الشيخ يقرأ من كتاب مفتوح أمامه لشدة ضبطه وعدم تلعثمه وحفاظه على منهجية واضحة في إلقاء المحاضرات والندوات والدروس.. كما ذكر لي أستاذي أبياط عنه أنه رحمه الله كان يحفظ جمع الجوامع عن ظهر قلب.. ومن أراد الاستزادة من ترجمة الشيخ فليراجع مقدمة كتابه (دعوى المساواة في الإرث) حيث ترجم له تلميذه سيدي امحمد العمراوي حفظه الله، وقد أحسن الدكتور سيدي امحمد العمراوي إذ أشرف بنفسه على طباعة كتب وبحوث أستاذه سيدي محمد التاويل رحمه الله.. فأحسن الله له ولشيخه..
إن الشيخ العلامة التاويل رحمه الله مع جلالة قدره وعظيم منزلته في العلم كان مقلدا في المذهب المالكي، وكنت قبل خمس عشرة سنة تقريبا دخلت على أستاذي الدكتور محمد أبياط في محرابه بمسجد يوسف بن تاشفين بفاس حيث كان يجلس بعد خطبة الجمعة يستقبل أسئلة الناس ويجيبهم عنها؛ فسألته بضع أسئلة عن الصوم وكان شهر رمضان على الأبواب؛ فدلني على عدد خاص لجريدة المحجة وذكر لي أن فيها فتاوى الشيخ التاويل الخاصة برمضان؛ فلما قرأت تلك الفتاوى وقع في نفسي شيء نحو الشيخ التاويل؛ إذ وجدته يكتفي بذكر المشهور في المذهب المالكي ولا ينصر قوله بدليل من الكتاب والسنة، وكنت يومها من أصحاب فقه الدليل، حيث كنا لجهلنا -غفر الله لنا- لا نقبل قول قائل أيا كان إلا بدليله، وكنا نرجح بين الأقوال ونختار منها الأقوى والأرجح ونحن لما نختم متن الورقات بعد!!
هذا الشيخ الجليل، والعلم الكبير كان لا يفتي بغير المشهور في المذهب كما هو حال علماء القرويين إلى اليوم؛ فهل يعني هذا أن فتاويه لم تكن مسايرة ومواكبة للتطوارت التي تعرفها حياة الناس؟ ولنجيب على هذا السؤال تعالوا معي نلقي نظرة سريعة على مؤلفات الشيخ رحمه الله. لقد ترك الشيخ رحمه الله مؤلفات عظيمة وبحوثا دقيقة في عدة قضايا معاصرة، ومن هذه البحوث:
1. (الوصية الواجبة في الفقه الإسلامي)، واسمع إلى تلميذه الدكتور امحمد العمراوي وهو ينقل في تقديمه للكتاب ما ذكره له أستاذه رحمه الله عن سبب تأليفه له، قال: “فذكر لي رحمه الله أمورا كثيرة يعنينا منها الآن أن الذي دعاه للكتابة في هذا الموضوع أساسا هو بيان حكم الشرع في ما يسمى (الوصية الواجبة) التي لا يفتأ يسميها (الوصية الظالمة) ثم قال لي: لقد طلب مني بعض الأحبة أن تتولى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية طبع الكتاب فوافقت، إلا أنني فوجئت بأحد أعضاء اللجنة المشرفة على مراجعة الكتب قبل طباعتها يعترض على طباعة هذا الكتاب، معللا ذلك بعدم صوابية ما كتبته في مسألة (الوصية الواجبة)…” ص:6 وما بعدها. ثم يقول الدكتور العمراوي: “لقد جاء الكتاب ليجيب أساسا عن سؤال كبير هو: هل هذه الوصية المسماة (الوصية الواجبة) هي بالفعل وصية واجبة شرعا، أم هي وصية ظالمة وجائرة قطعا؟”. ص: 9.
فانظر إلى هذه الجرأة العلمية من الشيخ رحمه الله وهي مخالفة لما عليه العمل في مدونة الأسرة المغربية، ولذلك رفضت وزراة الأوقاف طبع هذا الجزء المتعلق بالوصية الواجبة.. وكانت حينها مدونة الأسرة حديثة عهد بالخروج إلى حيز التنفيذ، وكان الشيخ رحمه الله عضوا بالمجلس العلمي، وعضوا باللجنة الملكية الاستشارية لمراجعة مدونة الأسرة المغربية.. ومع هذا كله يكتب بحثا علميا دقيقا يبين فيه خطأ ما تبنته مدونة الأسرة.. أليس هذا مسايرة للنوازل التي عرفتها الأمة المغربية؟
ولنا عودة للموضوع لنتابع عرض بعض مؤلفات الشيخ رحمه الله في القضايا المعاصرة.

اترك رد