عن واقع المعتزلة في الماضي وعن واقعهم في حاضرنا الماثل؟؟؟ ح.1

      بقلم: د. محمد وراضي

        قبل الخوض في هذا الموضوع الشائك، لزم التسليم بأن “مجالس العلم”، كانت تعقد في المساجد، وقد يسميها بعضهم “مجالس الذكر”. وهما معا مفهومان مترادفان من حيث الدلالة، ثم إنهما في الوقت ذاته مسنونان. ونجد عند مسلم في صحيحه قوله ص: “ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله عز وجل، إلا حفت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده”.

   وهذان المجلسان، ندرك واجب عقدهما من قوله عز وجل: “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها”؟

    وسنة رسول الله بكل صراحة وبكل صدق، مساهمة مباشرة في بيان مضامين الكتاب الذي “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”. مع الإقرار والإيمان المطلق بقوله سبحانه: “ما فرطنا في الكتاب من شيء”. فاقتنعنا بأنه تعالى يتحدث، إن بالتصريح وإن بالتلويح، عن كل ما يمكن أن يشغل بال المؤمنين على العموم والخصوص. 

    وهذه القناعة الأخيرة وحدها، والتي لم يتخلف رسول الله عن تناول معظمها في أحاديثه، تشكل مجالات للحوار وللنقاش بالنسبة للحاضرين في مجالس العلم أو في مجالس الذكر. هذه التي لا تعني العكوف لساعات على تكرار كلمات لعشرات، أو لمآت المرات على هيأة الاجتماع، مما يعني فقدان مجالس الذكر أو العلم لمدلولها الذي يعني مناقشة موضوعات بعينها، من منظور كونها تهم مسائل الإنسان العاجلة ومسائله الآجلة.

    ومتى انحرفت مجالس العلم عما سنت من أجله، كان على أولي الأمر من علماء وحكام، زجر الحضور فيها أيما زجر. ففي كتاب “البدع والنهي عنها” لمحمد بن وضاح الأندلسي، نقف على أكثر من حالة لزجر من يحولون المجالس المذكورة إلى مجرد تجمع لأجل العبث، وممارسة التضليل والضلال المبين.

    فعن يسار أبي الحكم أن عبد الله بن مسعود، أخبر أن أناسا بالكوفة يسبحون بالحصا في المسجد، فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم بين يديه كومة حصا. قال: فلم يزل يحصبهم (= يرميهم) بالحصا حتى أخرجهم من المسجد، ويقول: لقد أحدثتم بدعة ظلما، أو قد فضلتم أصحاب محمد ص علما”؟

    وبلغ إلى علم ابن مسعود كذلك أن عمرو بن عتبة في أصحاب له، بنوا مسجدا بظهر الكوفة، فأمر عبد الله بذلك المسجد فهدم. ثم بلغه أنهم يجتمعون في ناحية من مسجد الكوفة، يسبحون تسبيحا معلوما ويهللون ويكبرون. قال: فلبس برنسا ثم انطلق فجلس إليهم، فلما عرف ما يقولون، رفع البرنس عن رأسه ثم قال: أنا أبو عبد الرحمان. ثم قال: لقد فضلتم أصحاب محمد ص علما، أو لقد جئتم ببدعة ظلما؟ قال: فقال عمرو بن عتبة (= شيخهم): نستغفر الله ثلاث مرات، ثم قال رجل من بني تميم: والله ما فضلنا أصحاب محمد ص علما، ولا جئنا ببدعة ظلما، ولكنا قوم نذكر ربنا؟ فقال: بلى والذي نفس ابن مسعود بيده، لقد فضلتم أصحاب محمد علما أو جئتم ببدعة ظلما. والذي نفس ابن مسعود بيده، لئن أخذتم آثار القوم ليسبقنكم سبقا بعيدا، ولئن حرتم يمينا وشمالا لتضلن ضلالا بعيدا”.

    ومما قدمه ابن وضاح الأندلسي تلميذ سحنون القيرواني نستخلص ما يلي:

1ـ المسجد الذي بناه عمرو بن عتبة ومريدوه كشيخ لهم متبوع آمر، هدمه عبد الله بن مسعود الذي هو وال ومسؤول حكومي من جهة، وفي الوقت ذاته صحابي من أصحاب رسول الله الذي عنده حظوة فائقة، بحيث إنه على بينة تامة مما هو سني ومما هو بدعي.

2ـ هدم المسجد المذكور آنفا، معناه عند ابن مسعود، تذكير صريح بمسجد الضرار والكفر الوارد ذكره في سورة “التوبة” حيث يقول  تعالى: “الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون. لا تقم فيه أبدا، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه. فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين. أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير، أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، والله لا يهدي القوم الظالمين. لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلى أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم”.

3ـ الاشتغال جماعة بأذكار منتخبة أومبتدعة في مجالس محدثة، مرفوضة دينيا لأنها لا تمت إلى السنة بأية صلة؟

4ـ فلزم هكذا عبر التاريخ أن يسمى كل شيخ طرقي ذو أتباع أو مريدين ب “عمرو بن عتبة”؟؟ ولزم في الوقت ذاته أن يكون عمرو هذا مجسدا في كافة مشايخ الطرق، متبوعا يقتدي به مئات المريدين، لممارسة مبتدعات تجاوزت ما توقف عنده ابن عتبة وأتباعه؟

5ـ كما لزم امتداح عبد الله ابن مسعود الذي حاول قطع كل ميل شقي إلى الاشتغال بالبدع من جذوره. لكن أولي الأمر بعده تبنوا المبتدعات، واحترموا أصحابها، فآووهم وأكرموهم وعززوهم! ولا زالوا يمدونهم بالعون المادي والمعنوي؟ وهذا العون هو الذي تتبجح به الجهات المعنية عندنا بتدبير الشأن الديني؟ حتى في ظل مسمى الحكومة الإسلامية؟؟؟

6ـ أما المجالس العلمية التي دعا إليها الكتاب وامتدحها رسول الله ص، فكالتي كان التابعي الجليل: الحسن البصري يعقدها في المسجد، حيث إن الموضوعات التي يتم تناولها فيه تتمثل في كل ما يعود إلى الكتاب والسنة من علوم شاملة للدين والدنيا، بما فيها القضايا السياسية التي لها صلة مباشرة بتطبيق النظام الإسلامي المتميز عن باقي الأنظمة المعروفة قديما وحديثا على حد سواء؟ مما جعل الحجاج بن يوسف الثقفي، خديم النظام الأموي، يناهض الحسن البصري ومن معه في الانتصار للسنن لا للبدع؟

اترك رد