عن واقع المعتزلة في الماضي وعن واقعهم في حاضرنا الماثل؟؟؟ ح. 5

بقلم: د.محمد وراضي

    واضح من الحلقات المتقدمة، كيف أن المعتزلة أساؤوا إلى التوحيد. فقد بالغوا في محاولة إلغاء كل تصور للخالق يؤدي – على حد ما يدعون – إلى الشرك، أي أنهم يبحثون عن تأكيد التوحيد الخالص من وجهة نظرهم الكلامية، لكن نهجهم الفلسفي في البحث والتقصي قاد إلى تحديد مفهوم غريب للوحدانية المطلقة. إلى حد أنهم ساهموا مع بعض حكام من بني العباس في فرض آرائهم بالقوة. مع أنهم جعلوا من العدل ركيزة أساسية لمذهبهم بعد التوحيد. فكان أن أصدر المأمون العباسي مرسومه التاريخي المشين عام 218ه. هذا الذي يقضي بحمل الفقهاء والعلماء والأئمة والمؤذنين على القول بخلق القرآن، يعني أنه ليس صفة من صفاته ككلام، وإنما هو من مخلوقاته.

     فأصبح المعتزلة طرفا فاعلا في الاستبداد، إذ في الوقت الذي رفض فيه السنيون أن يصبحوا أداة في يد أولي الأمر المسؤولين عن إدارة شؤون الأمة، ممثلين في شخص الإمام مالك الذي امتنع عن الاستجابة لاقتراح هارون الرشيد القاضي بفرض “الموطأ” على كافة المسلمين، مع إلغاء العمل ببقية المذاهب والآراء الفقهية المشهورة، معللا رفضه دينيا ومنطقيا وأخلاقيا وسياسيا في الوقت ذاته. فعنده أن الفقه غير منحصر في شخصه. فهناك فقهاء آخرون موزعون في عامة أرجاء البلاد ونواحيها. إذ من باب العدل والتقوى والاستقامة، أن تترك للناس حرية اختيارهم للمذهب الذي يريدونه، في انسجام تام مع قوله تعالى: “لاإكراه في الدين”. وفي الوقت ذاته: زواج المكره وطلاقه لا يجوزان؟ ومثلهما بيعة المكره التي أدى قول مالك بها إلى تعرضه للضرب. وهو نفس ما كان سيحصل لسحنون القيرواني الذي رفض القول بخلق القرآن إلى حد أنه قال – وهو يحاكم بين يدي لجنة خاصة – “إنما يضرب مثل مالك وابن المسيب”؟

    فكان أن اعتبر المأمون العباسي واحدا من حكام المسلمين الدكتاتوريين الذين أوغلوا في محاولات القضاء كليا على حرية الرأي؟ مما يوضح عجز المعتزلة سياسيا عن الانتصار لآرائهم بالمنطق العقلاني الذي سوف يدافع عنه أخلافهم المزعومون في بلدنا، منذ أن تمت مصادرة النظام الإسلامي على يد الاستعمار، وهو نفس ما حصل في بقية الدول العربية والإسلامية. ولا يزال العمل به جاريا حتى كتابة هذه السطور. وبما أن سطوة المتبنين رسميا للفكر الاعتزالي القديم، قد ولت إلى غير رجعة، فإن سطوة المتبنين الجدد له، لم يكفوا عن الاستمرار في مواجهة دين الله الحق، بنفس الأسلوب الذي واجهه به العباسيون، حتى وهم مرتبطون برسول الله من حيث النسب لا من حيث الحسب للأسف الشديد؟

ولما لم يكن المأمون العباسي الحاكم بأمره نكرة، فإن القاضي المعتزلي: أحمد بن أبي دؤاد الذي اختاره لمواجهة خصوم “الفكر الاعتزالي”، لم يكن كذلك نكرة. وقصته وهو يحاكم بعضهم بحضور ولي نعمته، عمت الآفاق. ومن جملة من حاكمهم أخوه المعتصم الجاهل بالدين بعد توليه السلطة: الإمام أحمد بن حنبل.

    قال أحمد المجاهد المعارض الصلب: لما أدخلت على المعتصم قال لي: اجلس، فجلست، وقد أثقلتني الأقياد، فمكثت قليلا ثم قلت: أتأذن لي في الكلام؟ فقال لي: تكلم، فقلت: إلى ما دعى الله ورسوله؟ فسكت هنيهة ثم قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله. فقلت: أنا أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قلت: إن جدك ابن عباس يقول: لما قدم وفد عبد القيس على النبي ص سألوه عن الإسلام  فقال: شهادة “أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا الخمس من المغنم”.

    لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك. ثم قال: يا عبد الرحمان بن إسحاق ألم آمرك أن ترفع المحنة؟ قال أحمد: الله أكبر: إن في هذا لفرجا للمسلمين. ثم قال المعتصم لمساعديه في محكمة التفتيش: ناظروه وكلموه؟ ثم أضاف: يا عبد الرحمان كلمه. قال أحمد: فقال لي عبد الرحمان: ما تقول في القرآن؟ قلت: ما تقول أنت في علم الله عز وجل؟ فسكت. فقال لي بعضهم: أليس قد قال الله عز وجل: “الله خالق كل شيء”. والقرآن أليس هو شيئا؟ فأجاب الإمام أحمد: قال الله عز وجل: “تدمر كل شيء بأمر ربها”. فلم تدمر إلا ما أراد الله عز وجل (…) قال أحمد: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل، أو سنة رسول الله ص حتى أقول به. فيقول ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا ما في كتاب الله أو سنة رسول الله؟ فقال له أحمد: كما تأولت تأويلا فأنت أعلم. وما تأولت ما تحبس عليه تقيد عليه”.

    فيكون الإمام أحمد هنا كزعيم لأهل السنة والجماعة، وسط عناصر من “الأقلية الخادعة” التي أغوت بأفكارها كل باحث لحمله على إبراز “أناه” من باب “النرجسية” و”الماجوشية”. مع أن المطلوب من كافة الأطراف تقديم أدلة لا تشوبها شائبة، كالتي يطالب بها الممتحن المظلوم المعتدى عليه أحمد بن حنبل، لكن خصومه لا يملكون غير التأويلات المغرضة من جهة، والسلطة الغاشمة لفرض ما يدعونه من جهة ثانية. 

    وقد نقبل المقولة السائرة التي لم يقع بخصوصها الإجماع من طرف المؤرخين. نقصد هذه العبارة “التاريخ يعيد نفسه”. بحيث يصح اعتبار فرض دولة ما لما اقتنعت به من آراء، واضعوها إما غارقون في اعتماد العقل إلى حد الشطط في هذا الاعتماد؟ وإما غارقون في الأهواء من أخمص الأقدام إلى قمة الهامات؟ مع تمادي الدولة في الإندفاع  وراء هوس هؤلاء ومحاولة السمو أوتعالي أولئك على كافة الفهوم المحتملة؟

   وأبشع صور لفرض قناعات بعض المتعالين المعجبين بنفوسهم، الاستعانة بهؤلاء لتحويل أفكارهم عن طريق القهر والغلبة إلى ما يشبه عقيدة، غير ممكن لغيرها أن تتقدمها، أو تعطي فسحة من الحرية لأصحابها، كي يتمكنوا من تبسيط آرائهم المخالفة، كحال المتجبرين العباسيين، وحال الممثلين لعقيدة أهل السنة والجماعة على جميع المستويات، وهذا بين لنا واضح في عصرنا الحالي، إن نحن استقصينا أحوال حكامنا من خلال علائقهم مع دعاة العصرنة والحداثة والتقدمية؟ معدودين من اليمين أو معدودين من اليسار الثوري على حد ما يوصفون به؟

اترك رد