ملاحظات حول الصراع بين “الإسلاميين” و”التنويريين”

بقلم: نور الدين حاتمي

   من النافل، القول أن الصراع الدائر بين قوى((التنوير)) وقوى ((المحافظة))  يكاد يكون ابديا حتى أن التأريخ للثقافة العربية الحديثة والمعاصرة ليس في واقعه إلا تأريخا لهذا الصراع بين القوى التي تنسب نفسها(( للحداثة)) و((التنوير)) والقوى التي تزعم عنايتها بالهوية والاسلام و مسؤوليتها عنهما. كما انه من النافل أيضا القول أن هذا الصراع لا يمكن ـ بأية حال من الأحوال ـ اعتباره الا انعكاسا لأزمة العقل العربي والإسلامي، وتعبيرا عن تخبطه وافتقاده  لبوصلته.

   ان هذا الصراع، لا يمكن فهمه في محاولات هذا الاخير البحث عن الامكانات والسعي لاجتراح البدائل، لتحقيق ما كان يسميه ((مشروعه النهضوي)) وتجاوز التخلف والانحطاط، حتى وإن زعم اهله ذلك. إنه يكرس الانقسام بين افراد المجتمع العربي ويؤبده، ويساهم ـ بالموازاة مع ذلك ـ في نشر المغالطة والوعي الزائف، وهذا ما لاحظه  اكثر من واحد من الباحثين العرب.

   ولا شك ان هذا الصراع، صراع ساسي بامتياز. ولا يمكن فهمه فهما جيدا الا في السياسة، ووفق قواعدها. ولذلك، يبدو من العبث التصديق ان جهة ما تستهدف الاسلام كدين، و ان جهة ما معنية بهذا الاسلام وتنصب نفسها محامية عنه ومدافعة.

   وكما كان الصراع هائلا وشرسا بين [[السلفيين]] وخصومهم، توضحت شراسته في الثقافةـ باعتبارها مسرحا لهذا الصراع والتطاحن ـ ودارت دائرته على خصوم ((أنصار الفكرة الإسلامية)) حتى أن منهم من اعترف بهزيمته واعلن ((توبته)) وعودته الى ((الحق))من مثل علي عبد الرازق،  ومنهم من رفضت اطروحته الجامعية ك(( محمد احمد خلف الله القصص الفني في القرآن)) ، ومنهم  من حورب ك((طه حسين الشعر الجاهلي)) ،و منهم من طرد من الجامعة وفرق بينه وبين زوجته ك(( حامد نصر ابو زيد)).

   وكما أن تلك المعارك، شغلت الناس وهيمنت على المشهد الاعلامي في ابانها ووقتها، ها هي اليوم تعود الى الواجهة ،وبنفس القوة والشدة والشراسة.

  وكما كانت بالأمس، حربا بين معسكر(( يمس)) القرآن الكريم والحديث النبوي واصحاب النبي(ص) وبين معسكر((غيور))عليهم ،ها هو ذات المعسكر يعاود الكرة ويضرب من جديد، وفي نفس القضايا؛ القران في حرب المخطوطات، والحديث في شكل دواوينه المعتبرة. و ها هي نفس المواجهة ونفس الاسلحة تتراءى لنا من جديد.

   وكما شن معسكر القوى ((المحافظة)) هجوما تسلح باتهام الطرف الآخر بالتخوين والعمالة والردة والتآمر على الإسلام ،ها هو نفس المعسكر يشن نفس الهجوم وبذات الاسلحة .

   وكما كان الغائب الاكبرـ في تلك الحروب الثقافيةـ هو العلم ، حيث بقيت تلك الصراعات خلوا من المعرفة، وخلوا من العلم، وطافحة بالتحشيد والتعبئة ومغازلة الجماهير، ها هو الغائب الأكبر ـ اليوم ـ في هذه المعارك هو العلم أيضا .

    ويكفي ان نعيد النظر في الكتابات التي [تصدت] ل((طه حسين في الشعر الجاهلي)) و((محمد احمد خلف الله في القصص الفني في القرآن)) وغيرهما، لنلحظ طبيعة الردود والردود المضادة، وكيف أنها كانت معنيةـ فقط ـ بالدفع في اتجاه محاكمة النوايا، والقول أن أرباب تلك الكتب، إنما يستهدفون النيل من القرآن و يقصدون إسقاط قدسيته من قلوب العباد.

   لقد انتبهت الى هذه القضية، من خلال تأملي في تداعيات الكتابات التي صدرت مؤخرا، والتي تناولت مواضيع حساسة وخطيرة، من مثل مخطوطات القرآن الكريم والجامع للبخاري والخلفاء الراشدين وغيرها ، وما خلفته من نقاشات، كانت في الجملة، بعيدة تماما عن النقاش العلمي، بل كانت ،على النقيض تماما، من روح هذا الاخير. ولا فرق ،هنا، بين من كتب بالأصالة ،ومن تولى الرد. كلاهما لم تكن له أية علاقة بالعلم وأخلاقه ،لا من قريب ولا من بعيد.

   أما الأول ((التنويري)) فلم تكن غايته البحث عن ((حقيقة علمية)) بقدر ما كان يهدف الى لفت الانتباه  وشده إليه حبا في الاشتهار وحرصا عليه، وإلا فإن هذا النوع من الأبحاث كان يفترض فيه أن يظل من شأن البحث الاكاديمي، المقتصر على العلماء والمتخصصين، كما هو الحال في الغرب ،وان لا يشغل الناس به، وما العناوين المستفزة للوجدان المسلم من مثل [الخلفاء الملعونون] و[محمد اسطورة أو حقيقة]

 إلا دليل فاقع على صدق هذه الدعوى.

   واذا كان ((التنوير)) قد ظهر في مواجهة المسيحية، وكان يعني القضاء مع خرافاتها، لأن شرط التقدم  ـ عندهم ـ كان هو القطع مع المسيحية، بحسبانها نقيضا للعلم والتقدم، وبحسبانها عائقا لهما، فإن الاسلام هو على النقيض من ذلك، إذ بفضله نهض العرب، وبفضله ضربوا في الارض وفتحوها ، وبفضله شيدوا حضارتهم التاريخية، حتى اذا قلنا ان الاسلام هو معجزة العرب وملحمتهم  التي صنعوها بأيديهم  لم نبالغ.

    فيكون ((التنوير)) إذن، وبهذا الشكل، نقيضا للتنوير وضدا عليه، وإلا فإنه ليس من التنوير في شيء، أن تحارب ثقافة هي وحدها التي تعطي لأمةـ كالعرب ـ  فلسفة في حياتها ومعنى في تاريخها، وهي التي تمنحها القدرة على الصمود، والثبات في وجه محاولات الاقتلاع .

    وهذا التنوير، في حقيقته،  ليس الا نقولات عن النقد الذي مارسته العقلية الغربية ،على كل من المسيحية واليهودية ،ولم يزد ادعياؤه عن نقل تلك الأفكار وإسقاطها على القرآن والسنة. آية ذلك ان النقد الذي مورس على الديانة المسيحية واليهودية كان منصبا على ارجاع مواد ومضامين هاتين الديانتين، الى الاساطير والخرافات التي تعود الى ثقافات واديان ومذاهب بلاد الرافدين و الهلال الخصيب، وهو نفس مضمون ((النقد التنويري)) الذي يمارس على الاسلام .لا فرق في ذلك

   ولكن، كيف ما كانت الحال، فإن القضايا التي تعرض لها هذه الكتابات والاسئلة التي تطرحها، سيكون لها ما بعدها، وستلقي على [علماء الاسلام؟] امانة ضخمة ومسؤولية ثقيلة، تتمثل في ضرورة النهوض للتصدي لهذا الفكر والرد عليه بالأسلوب العلمي، وبالحجج والادلة، وليس بالاعتماد على الصراخ والعويل وتحريض العامة، والتأكيد على أن الاسلام في خطر. فهذا من شأنه ان يكرس الازمة، وان يشعر الناس ان اسلامهم مهدد بالفعل، في حين ان الحقيقة هي ان مصالح هؤلاء[العلماء؟] هي المهددة وان سلطتهم الروحية هي المهددة .

   إن هذا الصراخ وهذا العويل، لا يمكن التعويل عليهما في الدفاع عن الاسلام، فالإسلام ليس في حاجة الى من يدافع عنه. إنه، فقط في حاجة الى من يتبناه كله، وان يتمثله كله ، أي أن يبينه وعيا وسلوكا. وأن يرتفع اليه ويرتقي الى قيمه الثورية الثاوية وراء شعاره . وهوـ اي هذا الصراخ والتباكي ـ اذا لم يعبر عن ضعف الاسلام وعجز حجته،  فإنه يترجم  ـ بصورة لا تدع مجالا للشك ـ ان علماءه لا يستحقونه، وان مثقفيه دون مستوى الحجاج عنه.

   بل، ان طريقة هؤلاء [الادعياء] تلعب ادوارا عكسية، وتسيء الاسلام وأعلامه، وتجعل اولئك ((التنويريين)) أكثر جرأة وهمة في الهجوم عليهم، وبيان تهافت خطابهم الذي لا يستطيع الناس الفصل بينه وبين الاسلام نفسه، فيغدو الهجوم على هذا الخطاب ـ المهلهل والضعيف أصلاـ هجوما على الاسلام ويصبح عجز هذا الخطاب عن الرد عن نفسه بمثابة عجز الاسلام عينه. فتأمل أية جناية هذه على الإسلام الذي يزعم الشيوخ أنهم يذبون عنه.

   وهم، مع إدراكهم ضعف حجتهم وقصورها، بدلا من ان يسكتوا ويتجاهلوا تلك الكتابات، إذا هم يسهمون ـ بقدر كبيرـ في التعريف بها والدعاية لها والتحريض على قراءتها.

   و بالإضافة، إلى كونهم لا يقدرون الامر حق قدره، فإنهم يعلنون استعدادهم للمناظرة ورغبتهم في اجرائها، من اجل بيان قوة الاسلام وصلابته ومتانته، وبيان ضعف وخور الافكار المناوئة له. والحال، أن كل من رأى مثل تلك المناظرات التي تقام بينهم وبين [أعدائهم] ينتهي إلى انهم اضعف من ينتصروا عليهم، وأضعف من ان يمثلوا الفكر الاسلامي في فتوته وقوته.

   إن المعركة التي يخوضها الاسلام اليوم، لا قبل لعلمائه بها، ولا امل لهم في الخروج منها منتصرين. وهذه الكتابات، إذا كان لها من فائدة فإنها كشفت بما لا يدع ـ بوضوح ـ ان رجال الدين ليسوا في الواقع الا رجال دين  وليسوا علماء، كما يحلوا لهم أن يقولوا، وأنهم لا يفعلون أي شيء من اجل هذا الاسلام سوى التباكي عليه، من اجل حماية مصالحهم.

   ومن الموبقات التي يقع فيها هؤلاء، أنهم، اثناء نقاشاتهم وردهم على خصومهم، يعملون على جرهم الى تناول دائرة القرآن نفسه، حيث احتج بعضهم على من يقول ان صحيح البخاري كتاب منحول للبخاري وليس من وضعه وتصنيفه، لاعتبارات وشواهد طهرت له. احتج عليه بعضهم بان نسخة القرآن الكريم الاصلية نفسها غير موجودة، وبالتالي متى انكرت هذا الصحيح المنسوب للبخاري فقد لزم ان تنكر القرآن الكريم. وهو يدرك ان جر الرجل الى هذه المعركة هو ضرب تحت الحزام. فان الرجل ـ بحكم أنه مسلم ـ لا يستطيع ان يقترب من القرآن الكريم، وبالتالي لا يكون امامه الا ان يسلم بتهافت منطقه واعلان توبته، وإما ان يركب نفسه ويغضب لها، فيذهب معهم الى ابعد الحدود، فينكر القرآن، وينتهي النقاش بهذه الصورة المأساوية ؛أي بتكفيره.

  وهم لا تعنيهم تبعات هذا الفعل، أو أنهم ربما يكونون يبوؤون بإثم هذا الرجل. إنهم يهدفون فقط الى إحراجه أو تهديده باللعنة والطرد من الجماعة وبالتالي التخلص منه. ولو انتبهوا الى عظم القضية وجسامتها، لاجتهدوا لإبقاء هذا النقاش محصورا في صحيح البخاري ولقصدوا جوهر المشكل فحلوه، وطلبوا الورم فاستأصلوه، ولكن أنى لهم ذلك؟ وفاقد الشيء لا يعطيه.

   اعتقد ان المعركة الدائرة بين القوى العلمانية والإسلامية تسير في اتجاه ان يخسر فيها ((الاسلاميون)) وسيفقدون فيها الكثير من مواقعهم، في حين سيتقدم هؤلاء ((العلمانيون)). وأحسب ان ((الاسلاميين)) و((العلمانيين)) لا يختلفون عن بعضهم. ((العلمانيون)) و((الاسلاميون)) جلهم كائنات دهرية، ودهرية فقط ،لا ((العلمانيون)) علمانيون حقيقة، ولا ((الاسلاميون)) اسلاميون، انهم بالأحرى كائنات توظف الاسلام ك(ايديولوجيا) للاحتجاج وجمع الناس وتعبئتهم، وهم اذ يجيبون عن اسئلتهم الحياتية، إنما يجيبون عنها كما يصنع خصومهم، لا فرق، أي بمعزل عن الدين وقيوده. ولذلك ينبغي ان نكون في غاية الحذر، ونحن نتحدث عن ((الاسلاميين)) و((التنويريين)) وعلينا ان نحتاط، فلا نصدق انهم ـ كما يحلوا لهم ان يسموا انفسهم ـ فانهم ليس لهم من ذلك كله الا الدعوى.

   كما اعتقد ان الاصلح اليوم للإسلام، ان يكف ((الاسلاميون)) عن توظيفه في معاركهم السياسية الحقيرة والوضيعة، وان يحترموه وان يرفعوا ايديهم عنه. بل وان يعلنوا براءته منهم. وهو كما استطاع ان يحتوي الثقافات التي تعرف عليها اثناء فتحه للدول والاقاليم المختلفة، فانه سيفعل الشيء ذاته اليوم، وكما استطاع ان يخلق جيلا من المتكلمين تسلحوا بالمنطق والدليل العقلي وتمكنوا من التغلب على تلك الثقافات، بمختلف اسئلتها واشكالاتها، فإنه  بمقدوره، أن يخرج نخبة تفتح عهدا جديدا، لعلم كلام جديد، يهضم الثقافات المعاصرة ويحتويها ويتجاوزها.

اترك رد