العلمانيون وإشكالية العلمانية في العالم العربي.!

بقلم: إبراهيم بن مدان
يُفضل كثير من الباحثين استخدام كلمة مدنية عوض علمانية، إلا أن المعنى واحد لا يختلف في نهاية الأمر فالدولة المدنية هي الدولة العلمانية. ومنه فمن خلال تمعننا وتحليلنا للواقع الذي يعيشه عالمنا العربي نرى أن كثيرا من الناس يُصور لهم أن العلمانية هي محاربة الدين أو منعه، في حين أنها خلاف ذلك بالمطلق، فالعلمانية تعني عدم استغلال الدين وإقحامه لتحقيق أغراض سياسية، والدولة العلمانية يجب أن تتخذ موقف الحياد اتجاه جميع الأديان والعقائد والسماح للمواطنين بممارسة مختلف شعائرهم الدينية بكل حرية دون أن يعتدي أحد على أحد أو أن يفرض أحد مذهبه على الأخر باللجوء لاستعمال القوة والعنف. وبالتالي فمسألة محاربة الدين والدعوة إلى الإلحاد والكفر يستغلها الإسلاميون لصالحهم ويروجون لها بكثرة. يساعدهم في ذلك الجهل والأمية وانعدام القراءة التي يغرق فيها هذا العالم العربي.
أصحاب الفكر الإسلامي يرفضون العلمانية رفضا قاطعا لأنهم يؤمنون أن الإسلام دين ودولة، وبالتالي فالعلمانية عندهم كفر بشرائع الدين. يقول المفكر فرج فودة: “هنا تملك أن تفصل بين الإسلام الدين والإسلام الدولة، حفاظا على الأول، حين تستنكر أن يكون الثاني نموذجا للاتباع أو حين يعجزك أن تجد صلة واضحة بين هذا وذاك فالأول رسالة، والثاني دنيا، وقد أنزل الله في الرسالة ما ينظم شؤون الدنيا في أبواب، وترك للبشر أبوابا دون أن يفرط في الكتاب من شيء”1. فالإسلاميون؛ والمقصود بهم هنا في هذا السياق من يُؤمن بالدولة الدينية كنموذج للحكم، أما من حيث الإسلام فكلنا مسلمون!. هنا نجد أن الديدن الدائم لهم هو الرجوع لفترة النبوة والخلافة الراشدة حسب زعمهم باعتبارها أزهى العصور، ناسين أو متناسين بشكل أو بآخر أن الدول الدينية على مر التاريخ أثبتت فشلها في تسيير شؤون الناس، وأن الوطن للجميع وليس من حق أي كان أن يفرض حكمه ودينه على الآخرين وفي هذا السياق تحضرني مقولة للمفكر السيد القمني في إحدى محاضراته يقول: “إن مجرد الدعوة لدولة إسلامية هو خيانة للوطن”. فالوطن هنا يعيش فيه المسلم والمسيحي واليهودي إلخ. وليس من حق أي كان أن يفرض وصايته على الأخر بدعوى أن هناك دينا أفضل من الأخر أو شيئا من هذا القبيل، ومن أجل هذا التعايش والانسجام والمساواة بين المواطنين جميعا توصل الفكر البشري للدولة المدنية التي يعيش تحت سقفها الجميع متساوين في الحقوق والواجبات.
في هذا المجال ومن أجل استيعاب الأحداث بشكل دقيق في العالم العربي سنستعين بفلسفة التاريخ مع الفيلسوف هيجل. يرى هذا الأخير أن التاريخ يسير إلى الأمام ولكنه مضطر للعودة للوراء أحيانا من أجل القفز للأمام مرة أخرى. فهيجل أعطى أهمية كبرى لمفهوم التاريخ وبنى عليه فلسفته، الغريب في الأمر أن الناس لا يتعلمون من دروس التاريخ يقول: “نتعلم من التاريخ أنه يستحيل على البشر التعلم من التاريخ”. فجميع الانتفاضات والثورات على مر التاريخ رفعت شعار القطيعة مع الماضي وبناء الحاضر والنظر للمستقبل إلا في البلدان العربية التي شهدت انتفاضات وحراكات رفعت شعار العودة للماضي لعصر الخلافة وبناء دولة إسلامية، فهذا الرجوع الذي شهده العالم العربي يمكننا أن نعزيه إلى ما يسمى في علم النفس بالنكوص وهو العودة للماضي، فالإنسان المتخلف بتعبير مصطفى حجازي كالمجتمع المتخلف سلفي أساسا. يتوجه نحو الماضي ويتمسك بالتقاليد والأعراف بدل التصدي للحاضر والتطلع المستقبل. وتزداد السلفية بروزا بمقدار تخلف المجتمع.2. فهنا إنسان العالم العربي عندما عجز عن إعطاء إجابة واضحة لواقعه المعاش، فضل العودة للماضي لعله يجد فيه ضالته ومبتغاه.
فهذه العودة يرى فيها الإنسان المقهور الذي يعيش التخلف في مختلف أصقاع العالم العربي نوعا من التعزية والملاذ حين عجز عن فهم هذا الواقع واستيعاب تناقضاته. يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري: “الفكر العربي الحديث والمعاصر هو في مجمله فكر لا تاريخي يفتقد للحد الأدنى من الموضوعية، ولذلك كانت قراءته للتراث قراءة سلفية تنزه الماضي وتقدسه وتستمد منه الحلول الجاهزة لمشاكل المستقبل”3. ففلسفة التاريخ مع هيجل تعلمنا درسا أساسيا يجب علينا تعلمه واستيعابه إن نحن أردنا التقدم للأمام، وهو أنه لا يمكن إطلاقا تجاوز أي شيء إلا بعد مواجهته والدخول معه في صراعات والانتصار عليه في النهاية حينها يمكننا أن نقول إننا استطعنا فعلا التقدم والقيام بفعل القطيعة إذ لا تجاوز ولا قطيعة دون مواجهة.
فهنا إذا اعتبرنا أن هناك تيارين متصارعين، تيار الإسلاميين الذي يدعو للعودة لعصر الخلافة والدعوة للدولة الدينية، والتيار العلماني الأخر الذي يدعو إلى الدولة المدنية، سنجد أن الغلبة هنا هي لأصحاب التيار الإسلامي لأن العلمانيين العرب وأنا أخص الغالبية العظمى منهم، فاشلون في المواجهة أمام الإسلاميين لمجموعة من الأسباب أهمها الجهل بالعلمانية نفسها، وهو ما يدفعهم للقيام بالكثير من التصرفات الصبيانية مثل الطعن في الدين الإسلامي والاستهزاء بالرسول الأكرم (ص) وكذا تحقير الشعائر الخ. كل هذه الأشياء يستغلها خصومهم الإسلاميين في صراعهم فتكون بمثابة الورقة الرابحة التي من خلالها يُقنعون المواطنين العرب بفكرة أن العلمانية تدعو للإلحاد وأنها ضد الدين الإسلامي، ولأن الأمية والجهل فعلت فعلتها في هذه الأصقاع فإن هذا المواطن ينحاز للإسلاميين في تصورهم وطرحهم، وهنا يلعب العلمانيون العرب دور الأبله المفيد! فيسجلون الأهداف في مرماهم عوض مرمى الخصم، إذ بحسب تعبير الشيخ محمد الغزالي: ليس من الضروري أن تكون عميلا لكي تخدم عدوك يكفي فقط أن تكون غبيا، وهنا لا أجد غير مقولة للفيلسوف كارل ماركس في هذا الصدد يقول: ” الذي لا يعرف التاريخ محكوم عليه بإعادته”، والذي يدافع عن العلمانية ولا يفقه العلمانية محكوم عليه بالفشل والخذلان.!
إبراهيم بن مدان: كاتب صحفي وباحث (المغرب).
الهوامش
1- فرج فودة، “قبل السقوط”، دار ومطابع المستقبل، الإسكندرية، الطبعة الثانية 2004، ص 14.
2- مصطفى حجازي، “التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور”، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة التاسعة 2005، ص 103.
3- محمد عابد الجابري، “نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي”، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة السادسة 1993، ص 19.

اترك رد