الحاكم الجزائري: حينما تربك أحكام الماضي حسابات الحاضر

بقلم: لحسن الجيت

من البديهيات أن يشكل التاريخ مرجعا أساسيا للوقوف على حاضر الأمم والشعوب- ولفهم منظومة القيم والمبادئ وأنماط التفكير في مداخلاته ومخرجاته لمجتمع ما لابد من الاعتماد على السيرورة التاريخية التي تكشف عن التحولات والتغيرات التي تجتازها تجمعات بشرية في إطار جغرافي محدد مع التركيز على درجة ونوعية الانتقال من حقبة زمنية إلى أخرى- في سياق تلك السيرورة يتولد وعي معين ليفرخ مجموعة من القيم تترسخ في ما يسمى بالذاكرة الجماعية- ومن النتائج الطبيعية لتلك المسارات المختلفة في حياة الأمم  أن نجد تباينات في سلوكيات المجتمعات كما هو الحال بالنسبة لأنماط التفكير عندها-

هناك مجتمعات تحتكم إلى العقل والمنطق بسبب تلك التراكمات التي تشكلت تدريجيا عبر قرون خلت لتعكس حقيقة ما اجتازته من مراحل في بناء منظومة فكرية قائمة على العلم والمعرفة ،وتظهر اتزانا في تعاملها مع حاضرها على ضوء ذلك المخزون الموروث عبر الأجيال المتعاقبة-

وهناك أيضا مجتمعات أخرى تراهن في مستقبلها على ما يخبئه لها قدرها، تومن بالغيبيات ويطغى على تفكيرها الخمول والاتكالية وغياب تام لما يسمى بالاعتماد على الذات– هذا النمط هو الآخر ليس سوى نتاجا لتراكمات سلبية تجمعت كذلك عبر قرون بفعل تقوقع وانغلاق في سياق مغلوط وفهم سيء للدين-

وهناك مجتمعات من صنف ثالث وجدت نفسها على قارعة التاريخ تائهة وخارجة عن السياق الزمني، ولم يستقر حالها أبدا على وضع حتى يتسنى لها تشكيل نواة لفكر متجانس في حدوده الدنيا- من تجليات هذه الآفة ظهور ما يعرف باليتم أو الاغتراب الفكري بمعنى أن أولئك الضحايا لهذا التهميش قد يكبر فيهم الإحساس بالمظلومية وقد ينتج عن ذلك وعي مزيف يسيء أكثر مما ينفع ويتحول إلى خطر محدق على الذات نفسها وعلى المجموعة البشرية لتلك الرقعة الجغرافية وعلى شعوب الجوار- هذه الحالة على ندرتها في التاريخ الحديث للبشرية قد نجدها اليوم تعشش في مخيلة من يتولى الحكم في الجزائر-

ولفهم ما حدث ويحدث من سلوكيات حكام الجزائر التي هي أبعد من أن تكون منسجمة مع نفسها قبل انسجامها مع الآخر، لابد من العودة إلى الضوابط التاريخية على المستوى الفكري والثقافي التي ساهمت في تكوين العقلية الجزائرية الراهنة والقائمة على الانتكاسات والاصطدامات وعلى البحث عن كينونة مفقودة من خلال تشريع الأبواب لصراع لا يريدونه أن يتوقف إذن ما هي هذه التوابل التي أفرزت لنا هذه العقلية التي يستند عليها الحاكم الجزائري في تعاطيه مع الخارج؟

1 ـ تاريخ الجزائر هو تاريخ مرقع بمعنى أن الحقب التي تعاقبت على تلك الرقعة الجغرافية كأنها حقب معزولة عن بعضها البعض غير مترابطة ولا هي متماسكة- الانتقال من مرحلة إلى أخرى لم يكن سلسا بل أحدث انكسارا وتشظيا  وقد يؤدي ذلك إلى تشرذم فكري مع مواجهة صعوبة كبيرة في لملمة الشظايا لتكوين فكر يفضي إلى خلق شخصية متوازنة ومستقلة-

2 ـ البحث عن الذات يصبح من القضايا المستعصية لغياب ترابطات بين أجناس متفاوتة،وليس في أصولها ما يساعد على الإحساس بالانتماء- هذا النوع من التضارب أدى إلى انقسامات حادة داخل مكونات المجموعة البشرية سواء الأصلية منها كأمازيغ القبايل أو تلك التي جاءت مع موجات الاستيطان التي ضربت ما يسمى حاليا بالجزائر في عهد العثمانيين، وفرنسا

ومما زاد من عمق الإشكالية في البحث عن الذات أن الاستيطان بنوعيه عمر لقرون في الجزائر وأصبح من غير الوارد التمييز بين من هو أصلي وبين من فرضه أو أنجبه ذلك الاستيطان مما قد يفتح المجال إلى إحداث تشويه في البنية الديمغرافية – وقد ترتب عن ذلك ما هو معروف عن الجزائريين بأزمة الهوية، باستثناء القبايل الذين ظلوا إلى يومنا هذا متمسكين بأصولهم وهويتهم الأمازيغية من دون أن تنال منهم أيديولوجية القومجيين التي استقدمها الرئيس الهواري بومدين من المشرق

3 ـ في ظل هذا التشرذم مع وجود ثقوب أصلا في النسيج الاجتماعي لم يعد الواقع مسعفا  علىإيجاد أرضية مشتركة للبناء عليها في إعداد عقيدة يفترض أن تلتف حولها جميع مكونات المجتمع الجزائري- ومما زاد الطين بلة أن كل من تعاقب على الحكم في الجزائر لم يستطيعوا رتي ما خلفه الاستيطان من ثقوب- وبقيت العقيدة المشبوهة التي أرادوا أن يبنوا عليها وحدتهم المفقودة هو الاستناد على عقيدة العداء للمغرب-

بدا واضحا من الناحية التاريخية أن الجزائر لم تكن موجودة بل كانت عبارة عن ممالك امازيغية مثل المملكة النوميدية– وكان التاريخ شاهدا على فترات من الاحتلال من الفينيقيين والرومان والوندال والبيزنطيين لياتي الفتح الإسلامي فيما بعد الذي أدى الى ظهور دويلات مستقلة كالدولة الرستمية والدولة الحمادية مرورا بدويلات متناحرة في العصر الوسيط قبل ان تستنجد ببروس ويدخل العثمانيون فتتحول تلك الأرض الى إيالة ذات سيادة قوية في المتوسط-ومن دون أن ننسى أنه قبيل الحقبة العثمانية كانت تلمسان مركز ثقل تابع لدولة المرينيين في المغرب-

ولم يكن عبر هذا التاريخ الطويل ما يشير إلى وجود شخصية جزائرية أو ما يفيد بتواتر إحساس بالانتماء إلى تلك الأرض إلا في الحقبة الاستعمارية الفرنسية التي خلقت كيانا أطلق عليه اسم الجزائر أضافت إليه عرقيات دخيلة زادت من تشويه وتأزيم التركيبة الديمغرافية- وقد بلغ التنافر حده ليتحول في أوقات قادمة إلى تناحر-

5 ـ من بين تجليات هذه الخلطة الديمغرافية ذات الجينات المتعددة الأصول أن انتفى عنصر الانتماء- وعوض أن تصبح الشخصية الجزائرية بحاجة قصوى لعقيدة تجمع وتلملم أشلاءها تم استخدام القوة لفرض وحدة مزعومة وأدخلت البلاد في مسلسل من العدوانية وتصفية الحسابات شهدت عنها كل من العشرية السوداء التي طالت كل أطياف الشعب الجزائري وضرببعضها ببعض كانت فيها أجهزة الدولة هي المدبر والمهندس لإذكاء نار الفتنة بالتخفي من وراء أقنعة مستعارة-

ولم تقف الدولة عند هذا الحد من الافتراس بل تجاوزته في صراع محموم على السلطة إلى تصفية الحسابات مثلما تفترس الكلبة أولادها- ومنذ ما يسمى باستقلال الجزائر في ستينيات القرن الماضي وحال التصفيات والاغتيالات والمحاكمات الصورية لم يتوقف إلى حدود اليوم- الاغتيالات طالت قيادات من جبهة التحرير الوطنية ومن جنرالات وازنة من دون استثناء من كان يسكن قصر المرادية أبرزهم الرئيس المغتال محمد بوضياف، والحبل على الغارب في قائمة لا تبقي ولا تدر

6 ـ عقيدة العدوانية لم تقتصر على التصفيات الداخلية بل كانت تلك العقيدة طاغية على سلوكيات حكام الجزائر في علاقتهم كذلك مع الخارج- فالإبن غير الشرعي من منطلق ما فيه من نواقص لا يتوقف بفعل تأثير مشاعر العدوانية المتنامية فيه عن مهاجمة الجوار وكل ما رأت عينه في محاولة للدفاع عن نفسه وإضفاء شرعية على كينونته ووجوده- وأن الأخطاء التاريخية التي ارتكبت في حق الجوار والتي انتهت بولادة فيسرية لكيان لطالما اعتبرته فرنسا بمحافظات لما وراء البحار هي التي حملت حكام الجزائر اليوم على القيام بمحاولات لزعزعة الاستقرار لدول تخشى مطالبتها غدا بالأراضي التي اقتصت منها والتي يعتبرها النظام الجزائري بأنها حدود موروثة عن الاستعمار ويمنع إطلاقا  المساس بها-

7 ـ هذا التعامل المتعجرف يعكس حالة من انعدام الثقة في النفس وبالتالي انعدام الثقة في المستقبل- وقد يجد له تعبيرات مغلوطة تاتي من حين لآخر على لسان الحاكم الجزائري من قبيل “القوة الضاربة” للتغطية عن الفشل، أو من قبيل “لا وجود لأي كان أن يضغط على الجزائر” للتظاهر بالتحدي وصلابة الموقف، وكذلك من قبيل “الجميع يستهدف الجزائر في قوتها” للادعاء بوجود مؤامرة- كل ذلك يتم توظيفه زورا في سياق خلق جبهة داخلية لمواجهة ما يروج له النظام الجزائري من عقيدة أساسها أن الخطر الذي يستهدف الجزائريين مرده إلى الخارج-

على ضوء كل هذه المكونات التي لها تأثيرات متفاوتة على سيكولوجية صانع القرار في الجزائر، يتضح أن النتيجة الحتمية لكل ذلك وهو أن النظام الجزائري لا يومن بثقافة التوافق في تعاطيه مع الخارج، كما لا يؤمن باحترام الالتزامات والتعهدات- والتاريخ الحديث في إطار العلاقات المغربية الجزائرية يشهد عن ذلك-

ما يمكن استخلاصه في هذا الباب وهو حل الأزمة مع النظام الجزائري لا يكتفي بالمرور عبر سردية تقليدية تتناول محطات يتم فيها تحديد المسؤوليات من كلا الجانبين عن تلك الأزمة بل عن طريق الصدق وإثبات حسن النوايا لتصحيح الأخطاء التاريخية أبرزها حل مشكل الحدود المشتركة بين الجزائر ودول الجوار في إطار اتفاق تتوافق عليه الدول المعنية لضمان استقرار إقليمي شاملفالذهاب إلى الطاولة بنية الإلتفاف على الظرفية والتملص من الضغوطات الداخلية والخارجية لم يعد من باب الترف السياسي بل يجب أن يكون ذلك موضع التزام حقيقي يفرزه حوار جاد تنتظره الشعوب المغاربية كالماء الزلال-

تعليقات (0)
اضافة تعليق