ليست حقوق الإنسان شعارات تُرفع في الخطب، ولا تقارير تُعرض في المحافل الدولية فقط، بل هي قبل ذلك ممارسة يومية تتجلى في السلوك، خاصة حين يتعلق الأمر بمسؤولين يتقلدون مواقع رمزية ووازنة يفترض فيها أن تكون القدوة قبل الخطاب. من هذا المنطلق، يثير مشهد رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان أمينة بوعياش وهي منغمسة في مكالمة هاتفية، تاركة سائقها يحمل عنها المظلة وسط تساقط الأمطار، أكثر من علامة استفهام حول معنى الحقوق حين تنفصل عن الممارسة.
المشهد، في ظاهره، قد يبدو عابرًا أو بسيطًا، لكنه في عمقه يحمل دلالة رمزية قوية، لا سيما حين يصدر عن رئيسة مؤسسة دستورية معنية بالدفاع عن كرامة الإنسان وصون حقوقه. فحقوق الإنسان لا تبدأ من القوانين الكبرى فقط، بل من التفاصيل اليومية التي تعكس نظرة المسؤول إلى الآخر، وإلى العامل البسيط الذي يؤدي عمله بأجرة شهرية، لا إلى موظف بروتوكولي ضمن طاقم زعماء الدول.
الإشكال هنا لا يتعلق بحمل مظلة من عدمه، بل بما يكشفه هذا السلوك من خلط واضح بين منطق البروتوكول السيادي، الذي يحيط بزعماء الدول، ومنطق الخدمة الوظيفية العادية، التي يجب أن تُبنى على الاحترام المتبادل لا على تراتبية تُفرغ مبدأ الكرامة من مضمونه. وهو ما يعكس، للأسف، غيابًا لثقافة حقوقية متجذرة في الممارسة، رغم وفرة الخطاب الحقوقي المؤسسي.
وتزداد دلالة هذا المشهد حين يُستحضر السياق الوطني العام، خاصة وأن المغرب ترأس وانهى باقتدار وتنويه، قبل حوالي سنة، رئاسة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، في إنجاز نوعي جاء نتيجة تراكم إصلاحي وحقوقي طويل، قاده صاحب الجلالة الملك محمد السادس، وجعل من المملكة فاعلًا معترفًا به دوليًا في قضايا حقوق الإنسان والحكامة والاستقرار. هذا التموقع لم يكن صدفة، بل ثمرة اختيارات استراتيجية جعلت من الكرامة الإنسانية ركيزة في السياسات العمومية، ومن المغرب فضاءً لاحتضان مؤتمرات وتظاهرات دولية كبرى في المجالات الحقوقية والأمنية والاقتصادية والثقافية والرياضية.
غير أن صورًا من هذا القبيل، حين تصدر عن رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، تُحدث مفارقة مربكة، لأنها تعاكس، ولو رمزيًا، هذا التوجه العام، وتُضعف الرسالة التي يسعى المغرب إلى ترسيخها داخليًا وخارجيًا، ومفادها أن حقوق الإنسان ليست واجهة دبلوماسية، بل سلوكًا يوميًا يبدأ من أعلى هرم المسؤولية.
إن الخطر الحقيقي لا يكمن في الواقعة في حد ذاتها، بل في ما قد تُطَبِّع معه من ممارسات تُعيد إنتاج ثقافة السلطة بدل ثقافة الحق، وتُفرغ المؤسسات الحقوقية من بعدها القيمي، حين لا ينسجم الخطاب مع السلوك. فالمؤسسات، مهما بلغت قوة نصوصها، تظل رهينة بما يجسده مسؤولوها في حياتهم اليومية.
وفي النهاية، لا يحتاج المغرب إلى دروس إضافية في حقوق الإنسان، بقدر ما يحتاج إلى قدوة مؤسساتية تُجسد ما راكمه من مكتسبات، وتحمي صورته كبلد اختار أن يجعل من الكرامة الإنسانية أساسًا لمشروعه المجتمعي. فحين تسقط القدوة، يصبح الخطاب هشًا، مهما بدا متقدمًا.