عليك ان تبتسيم، فأنت فى زمن التفاهة وانس هموم الدنيا

بقلم: محمد السرناني

التفاهة فى حياتنا الآن تحولت إلى بنية متكاملة تحاصرنا ليل نهار ومن كل الأركان، ويكفى الدخول إلى موقع التواصل الاجتماعى الأشهر «فيس بوك» فقط لتصطدم بكل أشكال السخافة والانحطاط، والفيديوهات الضحلة والصور السخيفة الخالية من أى مضمون أو معنى، وتحصل على مليون مشاهدة وإعجاب فى ساعات قليلة!

فى زماننا هذا، تمكن التافهون والتافهات من السيطرة على حياتنا، وفى طريقهم الآن لإفراغ المفاهيم والقيم السياسية والاجتماعية والإنسانية والأخلاقية من معناها.. الابتذال هو السائد، والتسطيح يضرب بجذوره وبضراوة فى وجداننا، واستسلم المجتمع لمنتجى التفاهات من مشاهير مواقع التواصل ومن نطلق عليهم «يوتيوبر وروتي اليومي».

بالشوهة والتفاهة فى معجم المعانى الجامع: وجمعها تفاهات، وتَوَافِهُ، تعنى النقص فى الأصالة أو الإبداع أو القيمة، وتَفِهَ الطَّعَامُ: أى بِلاَ طَعْمٍ أَوْ ذَوْقٍ وتَفِهَ الوَلَدُ فِى تَصَرُّفِهِ: أى كَانَ غَبِيّاً، بَلِيداً، وتَفِهَ العَمَلُ: قَلَّ وَحَقُرَتْ قِيمَتُهُ.

على مدى التاريخ حققت الحضارة الإنسانية العديد من الإنجازات والمكتسبات فى المجالات العلمية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، وبالتوازى كانت الفلسفة والأدب والفنون تناضل لحماية القيم الأصيلة من أى انزلاقات، حرصاً منها على أن تسير كل الجهود البشرية فى اتجاه تحقيق الرفاهية المنشودة، وردع قوى الشر والتيارات العدمية المنافية للمضمون الجمالى والأخلاقى التى تحرض على البشاعة والدمار والقبح فى كل شىء لإشباع نزوات شيطانية تضخمت بفعل أهواء مرضية، أو نزعات معقدة ومهووسة بالقيم المضادة للفطرة الإنسانية.

فى السنوات الأخيرة وبفعل التطور المتسارع للتكنولوجيا، ومع هيمنة شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى، تراجع دور المؤسسات الثقافية والسياسية والاجتماعية التقليدية التى طالما ساهمت فى تكوين الإنسان، والتحكم فى علاقاته، ورهاناته، وتحديد أفق حركته الفكرية والإنسانية والإبداعية.

والكارثة التى يجب أن ننتبه إليها جميعاً قبل فوات الأوان، تتمثل فى «نجاح» المحتوى المتدنى النافذ عبر منصات التواصل الاجتماعى والتطبيقات فى استقطاب من يمكن وصفهم بالضحايا من مثقفين وكتاب ورجال أعمال وأكاديميين هانت عليهم عقولهم وأصبحوا ينافسون الحمقى والجهلاء فى مضمار التفاهة، وبابتسامات بلهاء يبررون مسلكهم بمجاراة الواقع وملاحقة ثورة الاتصالات.

وخارج عالمنا العربى المستغرق فى التفاهة، انتشر مؤخراً فى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا وأوروبا شعار «توقف عن تحويل الأغبياء إلى مشاهير»، وذلك فى مواجهة استغلال تطبيقات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى وحسابات الحمقى ومجانين الشهرة لترويج التفاهات ونشر الشائعات.

ألان دونو، أستاذ الفلسفة الكندى وضع كتاباً كاملاً بعنوان «نظام التفاهة»، ترجمته إلى العربية الدكتورة مشاعل الهاجرى أستاذة القانون بجامعة الكويت، وكتبت مقدمة أساسية لأبرز ما طرحه «دونو» عن معركة العصر وهى الحرب على التفاهة لخصت بها ما ينطبق على ما وصفته بالحالة العربية السوشيالية و«الشبكات الاجتماعية» و«نظام التفاهة»، وذكرت فيها أن الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل مثل «تويتر وفيس بوك وإنستجرام»، هى مجرد مواقع للقاء الافتراضى وتبادل الآراء لا أكثر، فيها يتكون عقل جمعى من خلال المنشورات المتتابعة، وهذا الفكر التراكمى السريع الذى يبلور وبسرعة وبدقة موضوعاً محدداً نجح فى اختصار مسيرة طويلة كان تبادل الفكر فيها يتطلب أجيالاً من التفاعل مثل المناظرات والخطابات والمراسلات والكتب والنشر والتوزيع والقراءة والنقد ونقد النقد، ورغم كل هذه الفرص، فقد نجحت هذه المواقع فى ترميز التافهين أى تحويلهم إلى رموز ما يجعل من كثير من تافهى مشاهير السوشيال ميديا والفاشينيستات يظهرون لنا بمظهر النجاح!

وظيفة التفاهة، كما يوضحها ألان دونو، أنها تشجعنا بكل طريقة ممكنة على الإغفاء بدلاً من التفكير، والنظر إلى ما هو غير مقبولٍ وكأنه حتمى، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضرورى.. إنها تحيلنا إلى أغبياء، والأخطر من التفاهة ألا يشعر بعض التافهين بخطر انتشارها، هنا يستباح مجال التفكير العلمى المبنى على نظرياتٍ وأدوات وخبرات وتجارب، ولا يصبح للنجاح معايير واضحة أو معالم واضحة يمكن من خلالها الوصول إليه.

فى «قانون باركنسون للتفاهة» الذى تم استنباطه من مقالة للكاتب «سايرل باركنسون» نشرتها صحيفة «الإيكونومست» عام 1955، واستهلها بعبارة «يُلاحظ عادة أن العمل يتضخم لكى يملأ الوقت المتاح لإنجازه»، وضرب «باركنسون» المثل ساخراً بسيدة عجوز تقوم بكتابة رسالة

لابنة أخيها لتقضى يوماً كاملاً فى كتابة الخطاب لأنه ليس لديها ما يشغل وقتها طوال اليوم، بالطبع لم يكن يقصد هنا السخرية من المسنات أبداً، ولكن كان يوجه النقد لانعدام الكفاءة وتضييع الوقت.

فى مواجهة التفاهة علينا أن نذكر أنفسنا من وقت لآخر بقانون باركنسون حتى لا نرى الطاقات المهدرة والوقت الثمين الضائع فى «اللاشىء».

تعليقات (0)
اضافة تعليق