في منطق المعنى لجيل دولوز
بقلم: ذ. خالد راكز (.)
المعنى بوصفه حدثاً وسطحاً
لا يستنطق جيل دولوز المعنى كمعطى جاهز، بل “يؤشكله” عبر إعادة قراءة تاريخ الفلسفة وتوطينه داخل الفلسفة المعاصرة. هنا، لا يعود المعنى امتداداً لجوهر أو انعكاساً لتمثيل لغوي، بل يستحيل حدثاً يبرز على السطح؛ شيئاً لا يختزل في الأشياء ولا في اللغة، وإنما يتولد من تداخل سلاسل متعددة.
يعمل دولوز على قلب السؤال التقليدي من أساسه، محرراً المعنى من “عمق الأشياء” ومن “عمق الذات” معاً. فالمعنى عنده “ليس شيئاً يُمْسَك، بل هو حدث لامادي يظهر على السطح بوصفه حداً دلالياً لا ينتمي إلى الداخل ولا إلى الخارج، بل يمر بينهما كتأثير سطحي”. وبذلك، يتوقف “العمق” عن كونه مبدأً للتفسير، ولا يعود “السطح” مجرد انعكاس، بل يصبح السطح هو مستوى الوجود نفسه. وكما يقول دولوز: “المعنى ليس في الأشياء ولا في الذوات، إنه ما يحدث بينهما، وما يطفو فوقهما”.
قلب الكانطية وتفكيك الدياليكتيك
بهذا المنطق، يقلب دولوز الكانطية رأساً على عقب؛ فبينما يمثل “الفينومين” (Phénomène) عند كانط مظهراً محدوداً بإمكانية معرفة مشروطة، يراه دولوز كثافة دلالية وحدثاً وميضياً على السطح. لذا يكتب: “ليس الحدث ما يختفي خلف الشيء، بل ما يتجاوز الشيء ويطفو فوقه كمعنى”. هكذا يكفُّ السطح عن كونه طبقة عليا للتمثيل، ليصبح ميداناً للإنتاج لا مرآة للعمق.
أما في قراءته لهيغل، فيرفض دولوز “مكر السلب” الذي يقود كل اختلاف إلى وحدة كليانية. ويؤكد أن “السلب ليس محركاً، إنه ظل يسقطه الفكر على الاختلاف”، معتبراً أن الاختلاف لا يشتق من التناقض، بل إن التناقض هو فشل الاختلاف الأصلي. وبهذه الصيغة، ينسف دولوز بنية الدياليكتيك ليحل محلها منطق المحايثة والتعددية؛ حيث لا يعود الاختلاف إلى هوية، بل يظل حركة خلق مستمرة.
الفلسفة كورشة للمفاهيم
تحت شعار “الفلسفة لا تفسر، الفلسفة تبتكر”، تتحول الممارسة الفلسفية عند دولوز إلى ورشة مفاهيم. الحدث عنده ليس مجرد عارض يقع لشيء ما، بل هو تموج وحركة اهتزازية تفك الارتباط التقليدي بين العمق والمعنى. السطح هنا ليس مكاناً هندسياً إقليدياً، بل مساحة دلالية وجودية يقع فيها الحدث ويُشتق منها المعنى.
تتولد هذه الأطروحة من تلاقي سلاسل مختلفة:
ولا يوجد المعنى في أي من هذه السلاسل منفردة، بل يظهر في مفاصلها وتقاطعاتها، مما يجعله ديناميكياً مقاوماً للثبات.
المفارقة واللامعنى: محركات الخلق
يعتبر دولوز أن اللامعنى ليس نقيضاً للمعنى، بل هو شرط إمكانه. كما أن “البارادوكسات” (المفارقات) ليست فشلاً للغة، بل هي تكشف حدودها وتمنع تجمد المعنى داخل بنية واحدة. ويستشهد دولوز بنصوص لويس كارول (أليس في بلاد العجائب)، حيث تتحول الجملة إلى حدث، ويصبح الأدب آلة فلسفية تولد المعنى عبر اللعب اللغوي.
روافد دولوز المعاصرة
ينغرس دولوز بقوة في الفلسفة المعاصرة، مستفيداً من أدوات التفكيك عند دريدا، والحالة الأنطولوجية عند هيدغر، والبنية الاستبصارية عند هوسرل. كما يعيد صياغة مفاهيم الزمن عند برجسون لتصور الحدث كتدفق، والسببية عند سبينوزا كعلاقات قوى.
في الأدب، تتحول الشخصيات عند دوستويفسكي، كافكا، وبروست إلى “شخصيات مفارقة” لا ذواتاً تقليدية؛ حيث يصبح الذنب والبراءة أحداثاً، وتتحول الجملة القانونية إلى منتج للمعنى لا يقاس بمطابقة خارجية.
خلاصة القول:
إن المعنى عند دولوز لا يختزل في العمق ولا ينعكس في الخارج، بل يولد على السطح كحركة سلاسل متنافرة. الفلسفة هنا ليست مجرد تنظير عن الأدب أو التاريخ، بل هي صياغة لأدوات جديدة تقبض على اللحظات التي يتوهج فيها المعنى بوصفه حدثاً خالصاً.
(.) باحث في الفلسفة والأدب – المغرب