إنسَ العلم وتذكَّر العذاب، الوردة السوداء ENSA جامعة ابن زهر، أكادير

بقلم: د. عبدالسلام أقلمون

المدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية لم تكن مؤسسة عادية؛ كانت حلمًا لأبناء الجنوب، تحقّق أخيرًا بعد انتظار طويل. كنّا نرى فيها تتويج مشروع جامعـة ابن زهر التي استكملت أخيرًا مكوّناتها الكبرى، خصوصًا في الهندسة والطب. وبخروج هذا الصرح إلى الوجود، بدا كأنّ جوهرة العقد قد استقرت أخيرًا في منظومة التعليم العالي بجامعتنا، حاملة معها آمال الآباء والأمهات، وطموحات جيل كان يحلم بعلم راسخ ومستقبل واعد. لكنّ الحلم ما لبث أن انقلب كابوسًا. فبعد أن كان الجميع يرى المؤسسة فضاءً للمعرفة والإبداع، تحولت تدريجيًا إلى بؤرة للتلوث الأكاديمي بأقصى تجلياته، وصارت أشبه بمعتقلٍ صغير: يدخل إليه الطلبة كل صباح ليختبروا فيه صبرهم وقوة احتمالهم، ويخرجون مساءً منهكين من عسفٍ وإجهادٍ وإهانةٍ لآدميتهم.
لم يعد الاهتمام بأخبار المؤسسة العلمية، ولا بإنجازاتها البحثية، ولا بمشاريعها العلمية (اللهم جهود ذاتية في ظروف تعجيزية)، بل شغلت محيطها بأخبار الصراعات الداخلية والملفات القضائية، وانقسام الهياكل البيداغوجية والإدارية، حتى بات اسم المؤسسة يحضر في الصحف والمحاكم بدل المحافل العلمية. وما تزال المشاكل عصيًّة على الحل، بل تتفاقم يومًا بعد يوم، وتستنزف الأساتذة والطلبة على السواء، ثم الآباء والأولياء. وبالرغم من تتابع الأحكام القضائية يبقى التعنت سيد الموقف!! وهكذا باتت ENSA مؤسسة متخصصة في تحطيم صورة الأستاذ الجامعي والنيل من وضعه الاعتباري، وفضاء مسخرا لزعزعة احترام المؤسسة الأكاديمية في الوعي الجمعي المحلي والوطني، بشكل بات بلا نظير، حسب علمي، مقارنة مع أي مؤسسة أكاديمية أخرى.
لم يقف النزيف عند حدود الأساتذة والإدارة، بل امتدّ إلى نفسيات الطلبة ومستقبلهم. كثيرون أصيبوا باضطرابات واكتئاب، لأن التكوين العلمي صار يُقدَّم لهم كأنه مسار تعذيب لا مسار معرفة. امتحانات تدخل أروقة المحاكم دوريا، اختبارات موضوع جدل دائم، أحكام بضرورة التصحيح، وتصحيح يستدعي أحكاما أخرى، ثم مختبرات تُغلق، ومعدات بحث يتم إخفاؤها جهارًا نهارًا… والهدف المجنون أن تغلق أبواب المستقبل أمام من حلموا يومًا بالابتكار والبحث العلمي.
وبعد أن عجز المسؤولون الجامعيون عن الحل بشكل يثير أكثر من سؤال. لجأ البعض للمحاكم. واختار آخرون الهربُ إلى مؤسسات أخرى داخل الوطن أو خارجه. فطبق بعض الطلبة وأولياء أمورهم المثل المغربي: “الهروب رجلة”. قال لي أحد الزملاء من الضحايا: “بغيت ولدي غير إبقا عايش، اللهم اهرب”. كلام مفجع، يدق ناقوس الخطر، ويسائل كل مسؤول. أما الهاربون خارج الوطن، فعندما يعودون يحدثونك عن الخيال العلمي، قال لي أحد طلبة المؤسسة النجباء، عندما عاتبته قائلا: بتنا نصدر أبناءنا مثل الطماطم. فأجابني مفجوعا: هاديك أوستاذ ما بقا ليها والو وتكون كوانتانامو، وابزززااااااف !!
ثم سرد المقارنة المؤلمة، وقد صار شخصية متوازنه وبلا عقد وعليه علامات الصحة و العافية، هناك في بلاد الكرامة الأكاديمية:
-الجامعة فضاء للتفتح والإبداع لا للتهديد والمحاكم.
-المختبرات مفتوحة، والباحث محترم، وقانون المؤسسة حارسٌ لا سجّان.
-الطالب يُعامل كقيمة، لا كمشروع إذلال.
-الأستاذ رفيق بحث لا خصمًا في قضية.
ملاحظاته تجعل السؤال يحفر في القلب: هل الطلبة أعداء لنا، ألا ينبغي أن نعرض على أطباء نفسيين للتأكد من سلامتنا النفسية والعقلية، لماذا لا نتصرف مثل مدارس أوربا وكلياتها.
هناك يُبنى العلم، ليزدهر الوطن. ويقال لك تذكر أنك لبنة من لبنات التقدم والابتكار.
أما هنا — في إنسَـا ENSA— يُقال لك: إنسَ كل شيء.
إنسَ الحياة الكريمة. إنسَ البحث العلمي. إنسَ القوانين. إنسَ حلمك.
تذكر فقط العذاب، والإجراءات، والمشاحنات، والمحاكم.
ومع تراكم هذه السلوكات الحمقاء وغير المبررة، والتي وصفها دفاع الطلبة بالسلوكات بالإجرامية، تزداد فرص انتقال المشكل إلى مستويات كارثية. ومن ذلك الإقدام على الانتحار. الانتحار؟
نعم. هذا ممكن بحسب ما يروج، وبحسب آليات التوقع والاستشراف. لهذا ينبغي تدارك الوضع سريعًا، وتنفيذ حلول جذرية ملزمة للجميع. أبناؤنا ليسوا سلعة رخيصة.
ونرجو أن ينجح رئيس الجامعة الجديد في مافشل فيه غيره من الرؤساء الذين نما المشكل تحت أعينهم. لأن الحل متاح فعلا وهو إعمال القانون، وتفعيل هياكل المؤسسة، وحماية الطلبة من الاضطهاد والتنكيل والتعسف والشطط.
هذه السلوكات لا تناسب المغرب الصاعد، ولا تناسب التطور الحضري الذي تشهده أكادير. مؤسسة رائعة في أحسن المواقع وبأجمل الحلل الهندسية… لكنها في الداخل ينخرها السوس، وتتفن بتصرفات تستدعي طرح السؤال: ما معنى الجامعة؟ وما وظيفتها؟
الجامعة التي نؤمن بها، والتي اشتغلنا بها ثلاثين سنة، ليست جدارًا وحجرا، بل هي عقلٌ وروحٌ ومسؤولية لبناء وطن. وفي جامعة ابن زهر من الكفاءات القانونية والتدبيرية والتواصلية، من يستطيع وضع كتاب أبيض لما ينبغي أن تكون عليه ENSA، لتخرج من الوحل الذي علقت فيه.
ولذلك، فإن إنقاذ هذه المؤسسة العظيمة، والتي تحمل وعودا كبيرة بتخريج أفواج من المهندسين في مختلف التخصصات، يحتاجها الوطن، وتحتاجهم هذه اللحظة التاريخية لتحقيق الصعود المرجو بالبلد إلى مصاف الدول المتقدمة،
ليس ترفًا، ولا شأنًا فئويا، بل قضية وطنية.
أوقفوا نزيف المحاكمات.
وانشغلوا بالعلم بدل الصراع.
فلا نهضة لوطنٍ يهين علماءه… ولا مستقبل لجامعةٍ تُطفئ أحلام أبنائها.
وكفى هؤلاء العابثين بالمؤسسة عارا، أن يتفرجوا على الآباء والأمهات وأولياء الطلبة، يعتصمون في البرد القارس، من أجل تنفيذ حكم قضائي.

اترك رد