الجزائر… والإحتلال الداخلي للنظام العسكري

بقلم: عمر المصادي

منذ أن استعادت الجزائر سيادتها الوطنية في 1962 بعد أكثر من 130 سنة من الإستعمار الفرنسي، ظن الجزائريون أن طريقهم نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية قد فتح أخيرا، غير أن الواقع أثبت العكس، إذ انتقلت البلاد من استعمار خارجي إلى ما يمكن وصفه اليوم بـ”الاحتلال الداخلي”، متمثلا في هيمنة المؤسسة العسكرية على مفاصل الدولة والحياة السياسية.

فبعيدا عن الشعارات الرسمية التي تمجد “الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير”، لم تعرف الجزائر تداولا فعليا على السلطة، ولم تفتح أبواب القرار السياسي أمام الكفاءات المدنية أو الإرادة الشعبية، فمنذ الإستقلال، تولى الجيش دور “الوصي الأعلى” على الدولة، يختار من يحكم، ويسقط من يشاء، ويصوغ الحياة السياسية وفق مصالحه واستمراريته.
وقد ظهر هذا بوضوح في عدة محطات حاسمة، أبرزها إيقاف المسار الإنتخابي في 1992، ثم توظيف الرئاسة لاحقا كواجهة لحكم فعلي يدار من خلف الكواليس، وهو ما تجلى خلال عهد عبد العزيز بوتفليقة، خاصة بعد مرضه، حيث أصبحت مراكز القرار متداخلة بين الرئاسة، والجيش، والمخابرات.

إن الحضور العسكري يطغى على الدولة ليس فقط في السياسة، بل في الإقتصاد والإعلام وحتى العدالة، ويمكن رصد هذا الإحتلال الداخلي من خلال عدة مؤشرات:
– الوصاية على المؤسسات المنتخبة، وتحجيم دور الأحزاب السياسية المعارضة، والتضييق على حرية التعبير.
– توظيف القضاء لتصفية الخصوم السياسيين، ومحاكمة النشطاء، مع تغييب المحاسبة الحقيقية لرموز الفساد داخل المؤسسة العسكرية.
– تحكم الجيش في الملفات الإقتصادية الكبرى، من خلال شركات ومؤسسات تابعة له، مما يعمق منطق الريع ويقوض الشفافية.
– قمع الحركات الشعبية، كما حدث مع الحراك الشعبي الذي انطلق في 22 فبراير 2019، والذي قوبل في البداية بشيء من الإنفتاح، قبل أن تعاد هندسة القمع وفرض سياسة الأمر الواقع.
ويعتبر الحراك الشعبي محطة مفصلية في تاريخ الجزائر المستقلة، إذ خرج ملايين المواطنين، دون قيادة حزبية أو دعم خارجي، مردّدين شعارا اختصر كل شيء: “دولة مدنية ماشي عسكرية”، هذا الشعار لم يكن مجرد رفض للجنرالات، بل تعبيرا عن وعي جماعي بأن العدو لم يعد خارجيا فقط، بل داخليا، متجذرا في بنية الحكم.
ورغم محاولات السلطة لاحتواء الحراك عبر تنظيم انتخابات شكلية، وسَجن بعض المسؤولين السابقين، إلا أن جوهر النظام لم يتغير، لا تزال المؤسسة العسكرية تحتفظ بزمام الأمور، ولا تزال كل محاولات الإصلاح تصطدم بجدار “الخطوط الحمراء” التي لا يجوز الإقتراب منها.

بعد أكثر من ستين عاما على الإستقلال، يبقى السؤال الجوهري الذي يطرحه الشارع والنخب الفكرية والسياسية: هل تحررت الجزائر فعلا؟
فالتحرر لا يقاس فقط بخروج الإستعمار الأجنبي، بل أيضا بمدى تمكين الشعب من ممارسة حقه في اختيار حكامه، ومحاسبة الفاسدين، والمشاركة في القرار الوطني دون وصاية أو خوف.
المعركة اليوم ليست بين الشعب والإستعمار، بل بين مشروع الدولة المدنية الديمقراطية، ومشروع الدولة العسكرية التسلطية، وما لم يكسر هذا الإحتلال الداخلي، فستظل الجزائر تدور في حلقة مفرغة، عنوانها “الإستقلال الناقص”.
وفي الأخير يجب التأكيد على إن الجزائر بحاجة إلى استكمال استقلالها، لا عبر معارك السلاح، بل عبر نضال سلمي وواعي يفتح الطريق نحو جمهورية تبنى على مؤسسات مدنية، وعدالة حقيقية، وحكم راشد خاضع للمساءلة.

اترك رد