في خطوة أثارت تساؤلات وجدلاً واسعًا داخل الأوساط العلمية والدينية، قررت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إعفاء الدكتور محمد بنعلي من مهامه كرئيس للمجلس العلمي المحلي لفجيج، بدعوى “عدم انتظامه في الحضور إلى دورات المجلس”، وهو ما أقرّه بنفسه في تدوينة بعنوان “وداعًا رئاسة المجلس العلمي”، أشار فيها إلى تسلّمه القرار من رئيس المجلس الجهوي، الدكتور مصطفى بنحمزة.
لكن الموقف الرسمي، وإن بدا إداريًا، ترافق مع تدوينات لافتة لبنعلي، أبرزها “كلنا متواطئون في إبادة غزة”، نقد فيها صمت المؤسسات الدينية الرسمية، وهو ما اعتُبر سببًا غير معلن للإعفاء، خاصة في ظل توقيت حساس وتقييد متزايد لحرية التعبير داخل المؤسسات الدينية.
التحفّظ والتوقير… أين اختفى التقدير المؤسسي؟
وما يزيد من ارتباك الصورة المرتبطة بوزير الأوقاف أحمد التوفيق، الذي يتولى تدبير الشأن الديني منذ أكثر من عقدين، هو الجدل الكبير الذي أثاره بتصريح مفاجئ حول “العلمانية”، خلال جلسة بمجلس النواب بتاريخ 25 نونبر 2024. ففي سياق لا يبدو أنه كان يستدعي الخوض في قضايا حساسة، استعرض الوزير حديثًا دار بينه وبين وزير الداخلية الفرنسي، الذي قال إن “العلمانية الفرنسية تصدم المغاربة”، ليرد عليه التوفيق بقوله: “لا، لأننا علمانيون.”
هذا التصريح، الذي بدا مرتجلًا وفي غير موضعه، فجّر موجة من الجدل السياسي والديني، وأثار لغطًا واسعًا في الأوساط الإعلامية والنيابية، بالنظر إلى رمزية الوزارة وموقعها داخل المنظومة المؤسسية المرتبطة بإمارة المؤمنين.
وقد حاول الوزير التخفيف من وقْع تصريحه، حين أضاف أن المغاربة يعيشون حرية التدين وفق الإسلام ومنطلق “لا إكراه في الدين”، موضحًا أن النظام المغربي يقوم على إمارة المؤمنين، وليس على الفصل بين الدين والدولة كما في النموذج الفرنسي. لكنه عاد لاحقًا، في تدوينة معنونة بـ*“شكوى إلى الله”*، ليؤكد أن قوله “نحن علمانيون” لم يُقصد به وصف الدولة، بل تأكيد حرية المعتقد، مشيرًا إلى أن إخراج كلامه من سياقه أضر بمكانة إمارة المؤمنين وبمصداقية الوزارة.
غير أن هذا التوضيح جاء متأخرًا، وبعد موجة من الانتقادات، أبرزها من الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بن كيران، الذي شدد على أن المغرب دولة إسلامية، وأن وزارة الأوقاف يجب أن تحفظ هذا الوضوح لا أن تُربك صورته. وقد بدا أن التوفيق، بدل أن يحتكم إلى منطق التحفّظ الذي يفرضه موقعه، خاض في مساحات حساسة بلغة مربكة وبتوقيت غير محسوب.
وزارة الأوقاف: مؤسسة يُفترض فيها التحفّظ والرزانة
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ليست مجرد جهاز إداري كباقي الوزارات، بل هي مؤسسة رمزية مرتبطة مباشرة بإمارة المؤمنين، تتولى حماية الأمن الروحي والهوية الدينية للمغاربة. ويُفترض فيها التحفظ، والوقار، والامتناع عن الخوض في المزايدات أو الإثارات التي تضر بصورة المرجعية الدينية العليا.
وعليه، فإن أي قرار متسرع، أو تصريح غير محسوب، لا يمسّ فقط صورة الوزير، بل يهزّ الثقة في مؤسسة يُفترض أن تكون من أركان التوازن الديني والمؤسسي في المغرب، لا أن تتحول إلى مجال للاجتهادات الفردية والتصرفات الخارجة عن أعراف الرزانة المعهودة.
بين القرارات والتصريحات النشاز: تناقض يربك مؤسسة الأوقاف
ما يفاقم الإرباك الحاصل داخل المؤسسة الدينية الرسمية، هو التناقض الصارخ بين قرارات متشددة تطال علماءً عبّروا عن مواقف ضمير إنساني، مثل الدكتور محمد بنعلي، وتصريحات مثيرة صادرة عن الوزير ذاته، كان آخرها التصريح حول “العلمانية”. فبدل الانسجام مع تقاليد المؤسسة، بدا وكأن الوزارة تُمارس الحزم على العلماء، فيما تنزلق في مواقف مربكة حين يتحدث الوزير نفسه.
هذا التناقض يُضعف من صورة الوزارة، ويطرح أسئلة حقيقية حول توجهها الحالي، ومدى التزامها بتقاليدها الأصيلة كمؤسسة دينية ترعى مقاصد إمارة المؤمنين، لا كمجالٍ للقرارات الفردية أو الرسائل الغامضة.
لماذا هذه الممارسات تُربك التوازن المؤسسي؟
- تناقض بين الدور والموقف
تصريح “نحن علمانيون”، حتى وإن قُصد به حرية التدين، يتناقض مع هوية الدولة المغربية التي تستند إلى إمارة المؤمنين، وتُقدّم نفسها باعتبارها ضامنة لوحدة الدين والمعتقد، وليس على نهج الأنظمة اللائكية الصرفة. - غياب الصيغة المؤسسية في التوضيح
رد فعل الوزير لم يصدر بشكل رسمي عبر الوزارة، بل عبر تدوينة شخصية، بعد انتقادات شعبية وسياسية. وهو ما زاد من الشعور بالارتباك، وجعل التوضيح يبدو تبريرًا بعد ضغوط، لا موقفًا مؤسساتيًا مسؤولًا. - قرارات تثير الشك في استقلالية العلماء
إعفاء د. بنعلي، وتوقيفات الخطباء، تطرح تساؤلات حول مدى السماح بحرية الضمير داخل المجالس العلمية، وهل باتت وظيفة العالم مرتبطة بالتقارير الإدارية فقط، أم لا تزال تحترم البعد الأخلاقي والإنساني لمقام العالم والداعية؟
إمارة المؤمنين أم تسلّط الوزير؟
القرار الإداري بإعفاء الدكتور محمد بنعلي، وإن اتخذ على أساس “الغياب”، إلا أن توقيته، وسياق التدوينات السابقة لبنعلي، يجعلان منه قرارًا عقابيًا أكثر منه إجراءً روتينيًا. وإلى جانب التصريحات المثيرة للوزير، أصبح المشهد يوحي بأن وزارة الأوقاف لم تعد تشتغل بالهدوء المؤسسي المطلوب، بل تسير بخطابات متناقضة، وقرارات مرتبطة بالإخضاع لا بالتقدير.
أحمد التوفيق، الذي ظل وزيرًا منذ سنة 2002، بات في مرمى انتقادات نادرة في تاريخ وزراء الشؤون الإسلامية، الذين اشتهروا بالتحفّظ والتوقير. فبدل أن يُجسّد هذه القيم، بدا أنه يخرقها بممارسات وتصريحات تثير الريبة، وتنتقص من رمزية المؤسسة أكثر مما تحصّنها.
ويبقى السؤال المفتوح أمام الجميع:
هل ما تزال وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تُجسّد حكمة إمارة المؤمنين؟
أم تحوّلت إلى أداة تنفيذية تخنق الضمائر، وتُربك الرسائل، وتُخضع العلماء لميزان الولاء لا مقام العلم؟