دبلوماسية محمد السادس… رؤية سيادية في عالم مضطرب
بقلم: عبدالحفيظ ناصر
منذ اعتلائه العرش سنة 1999، أعاد الملك محمد السادس صياغة مفهوم الدبلوماسية المغربية، ليس فقط كأداة لإدارة العلاقات الخارجية، بل كرافعة استراتيجية لتعزيز السيادة الوطنية، والدفاع عن القضايا الجوهرية، وفتح آفاق جديدة للتنمية والشراكات الدولية.
وقد تميز العهد الجديد بمقاربة تقوم على الوضوح في المواقف السيادية، والانفتاح جنوبًا نحو القارة الإفريقية، إلى جانب تنويع الشركاء الدوليين وتعزيز الحضور في قضايا العصر كالأمن، والهجرة، والمناخ.
لكن ما يمنح هذه الدبلوماسية بُعدًا استثنائيًا هو قدرتها على استثمار الرصيد التاريخي للمغرب في العلاقات الدولية، وهو ما يظهر بجلاء في العلاقة العريقة والمتميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
الجذور التاريخية للعلاقات المتينة التي تربط المملكة المغربية بالولايات المتحدة الأمريكية
في سياق عالمي كانت فيه الإمبراطوريات تتنازع السيطرة على البحار والمستعمرات، وكان يُقال عن بريطانيا إنها “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس“، اختار المغرب أن يخط لنفسه مسارًا سياديًا مستقلًا، قائمًا على المبادرة والثقة.
وفي سنة 1777، أقدم السلطان سيدي محمد بن عبد الله (محمد الثالث) على اتخاذ قرار مفصلي: الاعتراف الرسمي باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت آنذاك دولة ناشئة في طور التأسيس بعد انفصالها عن التاج البريطاني. لم ينتظر المغرب موقف القوى الكبرى، بل بادر منفردًا، واضعًا بذلك أساس أول علاقة دبلوماسية عربية إسلامية مع أمريكا.
هذا القرار لم يكن فقط نابعًا من حسن نية، بل كان ترجمة لرؤية دبلوماسية متقدمة، تُعلي من مبدأ الندية، واحترام السيادة، والانفتاح على القوى الصاعدة.
من معاهدة 1786 إلى شراكة القرن 21
ولم تمضِ سنوات قليلة حتى تُوّج هذا التقارب التاريخي بتوقيع “معاهدة السلام والصداقة المغربية الأمريكية“ سنة 1786، بين السلطان محمد الثالث والرئيس توماس جيفرسون، والتي تُعد اليوم أقدم معاهدة دبلوماسية لا تزال سارية في تاريخ الولايات المتحدة.
هذه المعاهدة لم تكن وثيقة بروتوكولية عابرة، بل أسست لنمط من العلاقات الدولية يقوم على الثقة، والتقدير المتبادل، وتطابق المصالح الاستراتيجية.
واليوم، بعد أكثر من قرنين، تُبعث هذه الروح مجددًا في عهد الملك محمد السادس، من خلال علاقات متينة تشمل التعاون في المجالات الأمنية، الاقتصادية، العسكرية، والثقافية.
وتجلى ذلك بشكل واضح سنة 2020، حين أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، لأول مرة في تاريخها، اعترافها بسيادة المغرب الكاملة على صحرائه، وهو قرار استراتيجي يُعد تحوّلاً نوعيًا في مسار القضية الوطنية.
السيادة المغربية… من الماضي إلى الحاضر
هذا الامتداد في العلاقة المغربية الأمريكية يعكس حقيقة أعمق: أن المغرب لم يكن في يوم من الأيام كيانًا هشًا أو تابعًا، كما تُروج بعض السرديات الاستشراقية.
بل على العكس، كان المغرب في قرون خلت:
إنها نفس الروح التي تُميز اليوم الدبلوماسية المغربية بقيادة جلالة الملك محمد السادس، والتي تُدير العلاقات مع القوى الكبرى بمنطق الشراكة لا التبعية، والسيادة لا الانقياد.
اليوم، تُبرهن الرباط أن الاستمرارية في السيادة ليست شعارًا، بل سلوك سياسي ودبلوماسي، تُجسده عبر مواقفها الواضحة، وتحالفاتها الذكية، وقدرتها على التموقع الجيواستراتيجي في محيط إقليمي معقد.
تحالف مغربي أمريكي يعيد رسم التوازنات الإقليمية
تُجسد العلاقة المغربية الأمريكية اليوم أكثر من مجرد شراكة ثنائية؛ إنها مفتاح لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل.
ففي ظل الاضطرابات الأمنية، وتنامي التهديدات الإرهابية، وتعدد التدخلات الأجنبية، أصبح المغرب — بدعم من واشنطن — قوة استقرار إقليمي ومركزًا للحوار والتنسيق في ملفات محورية، من الأمن الحدودي، إلى مكافحة التطرف، إلى قضايا الطاقة والمناخ.
ويأتي الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، الذي أعلنه الرئيس السابق دونالد ترامب في ولايته الرئاسية الأولى، تتويجًا لهذه العلاقة، واستنادًا على منطق تاريخي راسخ:
فعندما اعترف المغرب باستقلال الولايات المتحدة سنة 1777، كانت الصحراء جزءًا لا يتجزأ من حدوده وسيادته.
ومن هنا، فإن الموقف الأمريكي الأخير لم يكن سوى تصحيحًا لمسار تأخر كثيرا و ليس مجرد هدية سياسية عابرة.
من خلال استثمار رصيده التاريخي، وتحركه بدبلوماسية ناضجة ومتزنة، يُثبت المغرب في عهد جلالة الملك محمد السادس أنه قادر على تحويل المواقف الرمزية إلى مكاسب استراتيجية.
فالاعتراف المبكر باستقلال أمريكا لم يكن مجرد لفتة، بل رؤية سيادية بعيدة المدى، تُثمر اليوم تحالفًا متينًا مع واحدة من أكبر قوى العالم.
لقد رسّخ الملك محمد السادس، خلال أكثر من ربع قرن من القيادة، نموذجًا فريدًا في الحكم الرشيد، قائمًا على الاستباقية، والتوازن، والجرأة في اتخاذ القرار، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
وتُعد النجاحات الدبلوماسية المحققة — وفي صدارتها توسيع دائرة الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه، وتعزيز الشراكة مع قوى كبرى كأمريكا — شاهدًا حيًّا على حكمة جلالة الملك وبعد نظره في الدفاع عن المصالح العليا للمملكة، دون تنازل عن المبادئ ولا تفريط في السيادة.
في هذه الذكرى المجيدة، يواصل المغرب بقيادة الملك محمد السادس ترسيخ مكانته كدولة ذات مصداقية، وفاعل استراتيجي مؤثر، وصاحب رؤية متبصرة في محيط جيوسياسي لا يعرف الاستقرار، محافظًا في الآن نفسه على هويته، واستقلالية قراره، وانتمائه الإفريقي والعربي والإسلامي.