بقلم: عمر المصادي
يصادف عيد العرش لسنة 2025 لحظة استثنائية في التاريخ المعاصر للمملكة المغربية، ليس فقط لأنه يمثل ذكرى البيعة والوفاء، بل لأنه يتقاطع زمنيا مع نهاية الأفق الزمني لتقرير الخمسينية (2005–2025)، تلك الوثيقة المرجعية التي أرست دعائم الرؤية التنموية الإستراتيجية للمملكة، ورصدت مكامن القوة والخلل في المسار التنموي لما بعد الإستقلال.
في هذا التقاطع بالغ الرمزية، تنتقل دلالات اللحظة من الإحتفال الوطني إلى التقييم العميق، ومن رمزية العهد إلى مساءلة النموذج التنموي، ومن الدولة الحامية إلى الدولة الفاعلة والمحفزة.
فمنذ توليه العرش سنة 1999، جعل جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، من الإستثمار في الإنسان جوهر مشروعه المجتمعي، فقد أدرك جلالته مبكرا أن الرأسمال البشري ليس فقط محركا للتنمية، بل هو الغاية الأولى لأي مشروع إصلاحي.
وقد انعكس هذا التوجه في مشاريع كبرى، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
– المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (2005)، والتي أرست نموذجا مبتكرا لمحاربة الفقر والهشاشة عبر تمكين الأفراد والمجتمعات محلياً؛
– إصلاح التعليم والتكوين المهني، وإطلاق خارطة طريق جديدة لمدرسة عمومية دامجة وذات جودة؛
– تعميم الحماية الإجتماعية، من خلال ورش غير مسبوق يستهدف توسيع التغطية الصحية والتقاعد والتعويضات الأسرية، بما يعزز كرامة المواطن؛
– النهوض بالمرأة والشباب، عبر إصلاحات قانونية ومؤسساتية منحت مكانة مركزية لهاتين الفئتين في الدورة الإقتصادية والإجتماعية…
كما حقق المغرب، خلال هذه الفترة، تقدما ملحوظا في مؤشرات التنمية البشرية، حيث ارتفع معدل التمدرس، وانخفضت نسب وفيات الأطفال، وتحسنت البنيات التحتية والخدمات الصحية والإجتماعية، مما جعل المغرب يرتقي تدريجيا في التقارير الدولية ذات الصلة.
غير أن هذا التراكم الإيجابي يفرض علينا، ونحن نصل إلى نهاية الأفق الزمني الذي رسمه تقرير الخمسينية، أن نطرح أسئلة التقييم بجرأة ومسؤولية:
هل بلغنا فعلا أهدافنا؟
هل جسدنا طموحات المجتمع كما رسمها التقرير؟
هل استطعنا تقليص الفوارق المجالية والإجتماعية بشكل كاف؟
لقد آن الأوان للإنتقال من الدولة الحامية التي تتدخل لتقويم الأعطاب، إلى الدولة الفاعلة التي تخلق الفرص، وتستبق التحولات، وتستثمر في الذكاء الجماعي وتكافؤ الفرص.
هذا التحول يقتضي إعادة النظر في نموذجنا التنموي، وهو ما استشرفته التوجيهات الملكية في السنوات الأخيرة، خاصة مع إطلاق النموذج التنموي الجديد، الذي يعد امتدادا نقديا وعمليا لتقرير الخمسينية، من حيث طموحه في إعادة التوازن بين النمو الإقتصادي والعدالة الإجتماعية، وبين الجهوية والإندماج الوطني.
إن عيد العرش لسنة 2025 لا يمثل فقط مناسبة لتجديد الولاء والإعتزاز بالمسار الوطني، بل يشكل أيضا منعطفا تاريخيا لمساءلة المسار التنموي، واستشراف المستقبل بروح نقدية بناءة.
فبفضل الرؤية الملكية المتبصرة، قطع المغرب أشواطا هامة في مجال تعزيز التنمية البشرية وتثمين الرأسمال البشري، مما أرسى أسس مجتمع أكثر عدلا وتضامنا، ومع ذلك، فإن التحديات القائمة – من فوارق اجتماعية ومجالية، إلى رهانات التشغيل والتحول الرقمي – تفرض علينا تجديد النموذج التنموي ليكون أكثر مرونة، واندماجا، وقدرة على الصمود.
إن نهاية أفق تقرير الخمسينية يجب ألا تكون نقطة نهاية، بل بداية دورة جديدة من التفكير الإستراتيجي، حيث تبنى السياسات على التقييم والمساءلة، ويعاد توجيه الجهود نحو تمكين الإنسان المغربي من أن يكون فاعلا، لا فقط مستفيدا من التنمية.
وعليه، فإن الوفاء الحقيقي لروح عيد العرش يمر عبر تعزيز مكانة الإنسان في قلب المشروع الوطني، وجعل الدولة رافعة للتجديد، واكثر التصاقا بتطلعات المواطن المغربي في الألفية الثالثة.