فاس حيث تنطق الجدران بالحكمة وتهمس الأزقة بالعلم
بقلم: سهيل شهبار/ فاس
في قلب المدينة العتيقة بفاس، تنتصب مدارس علمية شاهدة على مجد علمي وديني يمتد لقرون.. ليست مجرد مبانٍ من طين وخشب وزليج، بل مراكز أضاءت الطريق لأجيال من العلماء والفقهاء، وما تزال حتى اليوم محط أنظار الزوار والباحثين.
المدرسة البوعنانية.. جوهرة مرينية
وسط ضوضاء التجار بزغت المدرسة البوعنانية، والتي تقع بالقرب من باب بوجلود، وقد شيدت بين سنتي 1350م و 1355م، في عهد السلطان أبي عنان المريني الذي نسبت إليه. وقد كانت مدرسة لتدريس العلوم الشرعية؛ كالفقه، والحديث، واللغة، إلى جانب كونها مسجدا ومكانا لإيواء الطلبة القادمين من بعيد. يجمع تصميمها بين الوظيفة الدينية والعلمية، والمعمارية البراقة. ومن أبرز خريجي هذه المدرسة:
_ سفير المعرفة بين الشرق والغرب الحسن الوزان، المعروف بـ”ليون الإفريقي”.
_ إضافة إلى أحد أشهر فقهاء المالكية في المغرب الشيخ عبد الواحد بن عاشر، صاحب النظم المشهور في العقيدة والفقه والتصوف.
رأس الشراطين.. المدرسة المنسية
وبين زحام عناوين المدارس المتشابكة ينبعث نور مدرسة غفلت عنها الصحف والأقلام وخلدها العلم، إنها مدرسة رأس الشراطين التي تقف صرحا صامتا؛ فرغم قلة شهرتها إلا أنها أدت دورا مهما في نشر العلوم الشرعية واللغوية. ويعود تأسيسها إلى سنة 1670م بأمر من السلطان العلوي مولاي الرشيد بن الشريف، وتعد أول مدرسة إسلامية بنيت في العهد العلوي بفاس. تتموقع هذه المدرسة في حي رأس الشراطين مجاورة لجامع القرويين، وقد سجّلت صفحاتها أسماء علماء وأدباء حملوا مشعلها، نذكر منهم:
_ العالم سيدي أحمد بن علي الوجاري.
_ والعالم سيدي عبد الرحمان بن إدريس المنجرة.
مدرسة العطارين.. الزليج يحفظ الذاكرة
تتربع مدرسة العطارين،الجوهرةالمرينيةالنفيسة، في قلب حي العطارين، على مقربة من جامع القرويين.. هناكحيث تفوح روائح الأعشاب والعطور، تتحول الحجارة إلى مذكرات، والزليج إلى رسائل مشفرة. شُيّدت هذه المدرسة في عهد السلطان أبي سعيد عثمان المريني بين عامي 1323 و1325م، وكانت مخصصة لإيواء وتعليم طلبة العلم الوافدين من شتى ربوع المغرب، وكانت فضاءً لتدريس العلوم الشرعية، واللغة، والمنطق. وممّن سجّلت جدرانها أسماءهم بحروف من ذهب:
- العالمغازي المكناسي.
- الفقيه النابغ في علم الحساب والفرائض.
المدرسة المصباحية.. الرخام والفقه
بجوار جامع القرويينأيضا شيد السلطان المريني أبو الحسن في عام 1344م (745هـ)، المدرسة المصباحية،وسُميت بهذا الاسم نسبة إلى أول أستاذ فيها، أبي الضياء مصباح بن عبد الله اليالصوتي.وتميّزت باستخدام الرخام الأندلسي الأبيض المستورد من ألمرية، مما أكسبها لقب “المدرسة الرخامية”، وقد كانت مركزا لعلوم الفقه والفلك.ومدرستنا الرخامية هذه شهدت مولد عدة علماء كبار:
_ كالعلامةسيديإبراهيم السوسي
_ والشيخ أحمد بن علي السوسي
مدرسة السباعيين.. صوت القرآن الصادح
بعد أن جُبنا بين البوعنانية والعطارين، وتوقفنا عند رأس الشراطين والمصباحية، نصل أخيرًا إلى مدرسة السباعيين، أو كما يسميها البعض “مدرسة السبعين”، والتي تأسست في عهد الدولة المرينية، وتحديدًا سنة 1323م (720هـ)، بأمر من السلطان أبي الحسن المريني، وكان بناؤهاقريبًا من جامع الأندلس، في قلب حي الأندلسيين، وخُصصت لتدريسعلوم القرآن، وقد تخرّج من أروقتها نخبة من المقرئين والعلماء الذين ذاع صيتهم في فاس وخارجها:
_ كالشيخ الحاج محمد بن العربي الفاسي، وهو من كبار قراء فاس.
_والفقيه محمد العثماني التطواني.
وها نحن نطوي الصفحة الأخيرة من هذه الرحلة عبر مدارس فاس العتيقة، التي لم تكن مجرد جدران مزخرفة أو أبنية شاهقة؛ بل كانت مصانع للعقول، ومفاتيح للتطور، وأسلحة لمواجهة الجهل.يقول المقري التلمساني في نفح الطيب: “وفي فاس مدارس تقصر عنها همم الملوك، قد زخرفت بالزليج، وقرئت فيها أمهات الكتب على كراسي العلم”.
فيا زائر المدارس العتيقة بفاس، قف لحظة وتأمل؛ فهنا تنطق الجدران بالحكمة، وتهمس الأزقة بالعلم.