ما هذا الذي يحدث في سفارتنا بواشنطن؟

بقلم: لحسن الجيت

علم النفس علم يعنى بالكشف عن أعطاب واختلالات قد يعاني منها الإنسان. وتتباين خطورتها من شخص لآخر، فيما تبقى تجلياتها موضع تدقيق ومراقبة من خلال السلوك والتعامل اللذين يحددان الحالة النفسية لكل شخص، والوقوف على ما هو عليه من شخصية إما أنها تميل إلى الاتزان والتحكم في المشاعر وضبطها أو الوقوع في حالة اضطراب تحت تأثير اللحظة العارضة. وهنا تتأرجح شخصية الإنسان ما بين شخصية منفتحة على الغير وقابلة للتحاور والأخذ والعطاء، وما بين شخصية منغلقة ترى في ذاتها أنها مركز الكون ومالكة للحقيقة دون غيرها من بقية البشر.

وأخطر ما يمكن أن يُبتلى به الإنسان هو مرض النرجسية، أي أن صاحبها يرى في نفسه ذلك الكائن الذي يفقه كل شيء ويفتي في كل أمر ونازلة، ولا يرهف السمع لغيره من منطلق أن الحقيقة مرتبطة بشخصه دون غيره.

لقد وقفنا على بعض الحالات الشاذة خلال مسارنا الدبلوماسي على مدى ما يزيد عن ثلاثة عقود، طاب المقام فيها مع بعض السفراء تاركين الذكر الطيب، وكان لنا مع بعضهم الآخر أشهرا وسنوات من النحس كادت أن تعرضنا لعقوبات كيدية، إما بسبب فهم أو رأي وجيه لا تزلف فيه لما يرضى عنه سعادة السفير، وأحيانا بسبب مزاجية حرم سعادته ومحاولة تدخلها بالتحكم في موظفي السفارة. وهناك حالات معروفة تعرض فيها بعض الزملاء لأقصى العقوبات إلى حد شطب أسمائهم من السلك الدبلوماسي ظلما وشططا.

من حيث المبدأ، فإن مهمة السيد السفير، كونه موظفا ساميا، تنحصر أساسا في تمثيل بلاده أحسن تمثيل. هذا التمثيل يلزمه أن يكون مقيدا بالمبادئ والنهج الذي ترسمه له السياسة العامة لبلاده، والتعليمات التي يتوصل بها من حين لآخر، إما من قبل وزيره أي وزير الخارجية، وإما من الجهات العليا بحسب ما تمليه الحاجة القصوى أو الحالات المستجدة لأحكام الظرفية الطارئة. عدا ذلك، لا يمكن للسيد السفير أن ينصاع تحت أي تأثير كان أو بسبب نزوات شخصية أو عائلية، أو أن يُستدرج لفعل أو تصرف أو علاقة مشبوهة تتعارض مع مبادئ ومرتكزات السياسة العامة لبلاده. من يقع في هكذا مطبات إرضاءً لنزواته أو خنوعا لصاحبته وذويه، فإنه آثم في حق وطنه، مُخلا بواجباته التي تلزمه بالانضباط والتمسك بالتوجيهات. وقد تجد بعضهم لا يقيم وزنا للتراتبية الإدارية في علاقته مع الإدارة المركزية لاعتبارات شخصية.

حالة السيد السفير في واشنطن التي خرجت إلى دائرة الإعلام وأصبح الغسيل منشورا لدى القاصي والداني، هي حالة لم تعد تحت السيطرة. وما نُشر عنها في الإعلام الأمريكي، بحق أو بغير حق، أصبح مدعاة للقرف والسخرية بعد أن تسلل إليها الشك، إلى درجة أن مكانة وهيبة السفير في عين المكان لم تعد محفوظة، ويصعب عليه ترميم الصورة أو إعادة ما يمكن ترقيعه بخصوص مدى تمثيليته. إننا نعي ما نقول ولا نطلق هذه الأحكام عبثا، لأن خصوصية السفير في واشنطن تختلف تماما عن سفرائنا في بقية العالم. ما نُسب إليه لا يمكن تداركه وإصلاحه لدى اللوبيات الناشطة في الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى إثر ذلك، من المحتمل أن تُغلق الأبواب في وجه سفيرنا ليصبح سفير المغرب في بلاد “العم سام” سفيرا معزولا ومحاصرا.

من سوء الطالع للسيد السفير أن بعض الجمعيات النسوية هنا في المغرب أبدت تعاطفا مع حرم سعادته، المدعوة أسماء لمرابط، وأثنت على نشاطها فوق الأراضي الأمريكية بخصوص دعمها ومساندتها للقضية الفلسطينية، على حد ما أدلت به تلك الجمعيات النسوية من شهادات في حق زوجة السيد العمراني. وتشير بعض المعلومات إلى أن التحريات التي كانت من ورائها جهات أمريكية لها صلة باللوبيات، وقفت على حقيقة وهي أن حرم السيد السفير كانت تنشط عبر وسائط التواصل الاجتماعي “إنستغرام” و”فيسبوك” في إطار حملة جماعية بخصوص القضية الفلسطينية انطلاقا من الأراضي الأمريكية.

من حيث المبدأ، لا عيب في مساندة قضية من القضايا، لكن العيب يكمن في كون هذه السيدة مارست هذا النشاط بصفتها زوجة السفير. وهو نشاط لا يمكن للسفير نفسه أن يتعاطاه، إذ تنحصر مهامه أساسا في القيام بكل ما يعزز العلاقات الثنائية المغربية الأمريكية، وتجنب كل ما يمكن أن يشوش عليها. الحديث في القضية الفلسطينية ليس من اختصاص السفير نفسه، فبالأحرى أن تسمح زوجته لنفسها بالتحدث عنها.

وليعلم السيد السفير أن الإطراء في حق زوجته الحاملة للدكتوراه هو شهادة ضدها قد تسيء له وتزيد مهمته أكثر تعقيدا، لأنه لا يحق لزوجة السفير أن تمارس أي نشاط سياسي يدخل في صميم مهام الزوج، وإلا قد نصبح أمام ثنائية في التمثيل، وهذا مخالف للأعراف والعادات الدبلوماسية. المتعارف عليه أن زوجات السفراء يشاركن في معارض للأزياء الوطنية وبعض المهرجانات ذات الصلة بأصناف الطبخ والموسيقى وغيرها. أما أن يكون الشخص حاملا للدكتوراه أو ناشطا حقوقيا فلا يمكن بذلك أن يسمح لنفسه بأن يتطاول على أنشطة السفير، وكذلك ينطبق القول على الزوج في حالة إذا كانت حرمه هي السفيرة.

لا يختلف أحد منا على أن الموقف الرسمي للمملكة المغربية من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو موقف متوازن، بقدر ما يهتم ملكنا بتلك القضية ويسعى لحلها بكل ما أوتي من جهد على أساس حل الدولتين، بقدر ما يسعى كذلك إلى خلق علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وذلك من باب الدفاع عن مصالحنا الاستراتيجية. لكن السيد السفير، وهو في بيئة أمريكية، عليه أن يكون يقظا ومدركا للحساسيات التي تفرزها تلك البيئة، وأن يقرأ كذلك جيدا دور ومكانة اللوبيات اليهودية المتحكمة في الإدارة الأمريكية. ومن خسرها فقد خسر كل شيء.

للإشارة، فإن ما يتنفسه السيد السفير من هواء بين لحظة وأخرى يقاس بميزان يحدد جرعات ما استهلكه من أوكسجين، لأن الأمور هناك توزن بميزان بيض النمل. وإن صح ما نُقل عن رفض سعادته رفع الدعاء لجلالة الملك من قبل حاخامات مغاربة أثناء الاحتفال بعيد العرش، فإن ذلك يتنافى مع الصلة التي تربط المؤمنين من مسلمين ويهود مغاربة مع إمارة المؤمنين. ولن يبقَ له عندئذ سوى أن يحزم حزام السلامة في الرحلة القادمة.

المثير للاستغراب أيضا، وهو ذلك السكوت المطبق حيال هذه الحالة المثيرة للجدل، حتى لا أقول فضيحة أو ورطة. هذا السكوت يفتح الباب على مصراعيه لاعتماد القراءة الرائجة. سبق للسيد السفير أن كتب مقالات حينما كان سفيرا لدى جنوب إفريقيا، وعلى هذا الأساس وجب أن نطرح سؤالا ملحا: ما المانع الذي حال بينه وبين كتابة مقال توضيحي يرد فيه وينفي تلك الاتهامات والادعاءات من قبل مواطن مغربي قيل عنه إنه من المؤيدين للتطبيع مع إسرائيل؟

وما يزيدنا إلحاحا على خرجة للتوضيح، وهو أن السيد السفير سبق له أن خرج بكبسولات يتفنن فيها في الدفاع عن القضية الوطنية، التي نشرها على منصة السفارة، بلغت فيها نسبة المشاهدة إلى حدود خمسة وأربعين مشاهدًا، أي عدد موظفي السفارة. إذن، أليس الأوان مناسبا لكي يطالعنا السيد السفير بكبسولة جديدة في هذه النازلة؟ لعل هذا السؤال وغيره قد يساعد على الفهم، أما الإحجام عن الرد فإنه يعني أن القضية “فيها إن”، وأن صفته كممثل لبلادنا لم تعد بينه وبينها سوى الإحسان.

اترك رد