بقلم: نعيم بوسلهام
في مشهد قصير لكنه فاضح، التقطت الكاميرات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وهو يخاطب نظيره السوري أحمد الشرع بنبرة ساخرة جاهزة: “كم زوجة لديك؟ معكم لا نعرف أبداً.”
ضحك الرجلان، وانتهى المشهد… لكن المعنى لم ينتهِ. بل بدأ.
فما قاله ترامب ليس مجرد نكتة دبلوماسية، بل خلاصة قرنٍ كامل من التحقير الثقافي الموجَّه نحو الإسلام وكل ما يرتبط بأنظمته الاجتماعية. وهذه ليست المرة الأولى التي ينفجر فيها الوعي الغربي بجهله المدجَّج بالثقة، لكنه هنا اختصر المسألة بكاملها:
يكره ما لا يفهم.
يسخر مما لا يعرف.
ويهاجم منظومة اجتماعية لم يقرأ عنها صفحة واحدة.
الغرب… حين يخون في السر، ويهاجم التعدد في العلن
المفارقة المضحكة المبكية ليست في سؤال ترامب، بل في المعايير المقلوبة التي تحكم الخطاب الغربي.
فالذي يهاجم تعدد الزوجات، هو نفسه الذي
يشرعن العلاقات خارج الزواج،
ويغض الطرف عن الخيانة الزوجية،
ويحوّل العشيقات إلى “شركاء حياة”،
ويعترف بانفجار أسري أودى بالمجتمع الغربي إلى أعلى نسب التفكك والانتحار والعزلة.
ومع ذلك لا يخجل من أن يقدّم نفسه أستاذاً في الأخلاق.
إنهم يرفضون التعدد لأنه… معلن.
ويقبلون الخيانة لأنها… مخفية.
هكذا يُبنى “الخطاب الأخلاقي” عند البعض: ازدواجية وعمى وتغليف للفضيحة بشعارات الحرية.
المصيبة الأكبر… عربية الصنع
لكن الصدمة ليست في ترامب ولا في الغرب.
الصادمة الحقيقية هي تلك الفئة من أبناء جلدتنا، التي تحولت إلى نسخة متطرفة من المستشرقين الكلاسيكيين.
مثقفون وإعلاميون ونشطاء يقفون ضد كل ما هو إسلامي—ليس بتحليل عقلاني—بل بغريزة الرفض المُبرمَجة.
يرون في أي حكم شرعي أو نظام اجتماعي لا يعجب الغرب سبباً كافياً لإعلان العداء عليه، حتى قبل فهمه أو دراسته.
والنتيجة؟
نخبٌ عربية تردد خطاب الغرب حرفياً، دون قدرة على إدراك السياق التاريخي أو الاجتماعي أو الديني، ودون قراءة واحدة موضوعية حول الموضوع.
لقد أصبح بعض العرب اليوم أكثر عداءً للتعدد من المستشرقين الذين صنعوا هذه الأساطير أصلاً.
غوستاف لوبون: حين ينصف الغرب ما لا ينصفه العرب
وهنا تكمن المفارقة المدوية.
فبينما يصرخ المعترضون العرب على التعدد بوصفه “تخلفاً”، خرج أحد كبار مفكري الغرب—غوستاف لوبون—بكتاب “حضارة العرب” سنة 1884 ليقول بوضوح:
تعدد الزوجات في الشرق نظام اجتماعي “طيب” يرفع مستوى الأخلاق والاستقرار ويمنح المرأة احتراماً وسعادة تغيب في أوروبا.
لوبون، وهو عالم اجتماع لا علاقة له بالمسلمين، لخص المسألة في ثلاث حقائق:
1. الغرب هاجم التعدد دون أن يفهمه، ودون أن يدرس سياقه.
2. التعدد في الشرق كان نتاجاً لظروف اجتماعية وطبيعية، وليس نزوة ذكورية كما يروّج البعض.
3. المرأة الشرقية في الأنظمة التي تعرف التعدد ليست أقل سعادة من نظيرتها الأوروبية… بل قد تكون أكثر استقراراً.
يا للمفارقة:
الغربي الموضوعي أنصف النظام،
بينما العربي المستغرب فشل في فهمه.
العقل المستعمر… أخطر من الاستعمار العسكري
نحن أمام مشكلة أعمق من مجرد رفض فقهي أو جدل اجتماعي.
المسألة تتعلق بـ العقل المُستعمَر: ذلك الذي يخجل من ثقافته ويعتذر عن دينه، ويقلد الغرب حتى في جهله وعدائه.
حين تصبح ثقافتك هدفاً سهلاً لمزحة رئاسية، فهذا يعني أنك فقدت منطقة الحصانة الفكرية.
وحين يكون أول من يهاجم قيمك هم بنوك وأبناء مجتمعك، فهنا الكارثة.
الخلاصة: التعدد ليس مطلقاً… لكن الجهل الغربي مطلق
لا نقول إن التعدد فرضٌ أو واجب أو حلّ لكل المشاكل.
هو نظام بشروطه وضوابطه، قد يناسب بيئات ويختلف في أخرى.
لكن المؤكد أن الهجوم عليه—من ترامب أو غيره—ليس مبنياً على معرفة، بل على جاهلية مغطاة بدبلوماسية.
ولذلك كانت مزحة ترامب… فضيحة ثقافية قبل أن تكون طرفة سياسية.
إنها لحظة يجب أن نتوقف عندها بجرأة:
لماذا نقبل أن يحدد الغرب ما هو “متقدم” و”متخلف” في ثقافتنا؟
ولماذا أصبح بعض منا يهاجم نفسه أكثر مما يهاجمه أعداؤه؟
ربما آن الأوان أن نعيد بناء الثقة في منظومتنا الاجتماعية، لا لنفرضها على العالم، بل لنفهمها أولاً… ثم ندافع عنها عندما يسخر منها الجاهلون.