هل ما زلنا نتواصى بالحق؟ قراءة في واقع قيمة تتراجع

بقلم: عمر المصادي

بسم الله الرحمن الرحيم
وَالۡعَصۡرِ (1) إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ (2) إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ (3)

في عالم تتسارع فيه الأحداث وتضطرب فيه القيم، تعود إلى الواجهة قاعدة قرآنية خالدة كثيرا ما نرددها دون أن نحسن استحضارها: “وتواصوا بالحق”، هذه القيمة التي جعلها القرآن ركيزة أساسية لنجاة الإنسان وصلاح المجتمع، تبدو اليوم أكثر حاجة من أي وقت مضى، فيما تتراجع مساحتها في الواقع اليومي لصالح ثقافة المجاملات والصمت المريب.
فالنصيحة التي كانت يوما جزءا طبيعيا من تماسك المجتمع، صارت اليوم عند كثيرين مخاطرة غير محمودة. الخوف من ردة الفعل، والحسابات الإجتماعية الضيقة، وثقافة “دَعْني وشأني”، كلها عوامل جعلت الناس يحجمون عن قول كلمة الحق ولو كانت واجبة. وبالتوازي، ارتفعت موجة المجاملات التي ترضي وتساير، لكنها لا تقوم ولا تصلح.
وما زاد المشهد تعقيدا هو انتشار منصات التفاهة التي تصنع ضجيجا بلا قيمة، وتروج لمحتويات سطحية تتصدر المشاهدات، بينما يهمش الخطاب الهادف والنصيحة الصادقة، لقد أصبح كثير مما ينشر ويتابع اليوم أبعد ما يكون عن الحق، بل يسهم عن وعي أو دون وعي، في تفريغ الوعي الجماعي من المضمون، وفي جعل النصيحة صوتا خافتا لا يسمع وسط صخب اللاشيء.
ورغم ذلك، فإن الحاجة إلى إحياء التواصي بالحق أصبحت أشد من أي وقت مضى، فوسط سيل المعلومات المضللة، وثقافة السخرية من المبادئ، يحتاج المجتمع إلى من يعيد التذكير بالقيم، ويثبت المعايير الأخلاقية، ويقدم النصيحة بصدق وأدب ومسؤولية.
وفي خضم هذا الواقع المربك، يبرز دور الإعلام الجاد والمسؤول باعتباره أحد أهم الأسلحة في مواجهة التفاهة وتوجيه الرأي العام نحو القيم الأصيلة، فالإعلام الذي يحترم عقل المتلقي ويسعى إلى تقديم الحقيقة دون تهويل أو ابتذال، قادر على إعادة التوازن للمشهد الثقافي والفكري.
إن البرامج الهادفة، والتحقيقات الرصينة، والحوار البناء، كلها أدوات تسهم في ترسيخ ثقافة التواصي بالحق، وتمنح الجمهور مساحة للتفكير الواعي بعيدا عن ضجيج المحتوى السطحي، ومع التزام الإعلام برسالته الأخلاقية، يصبح شريكا فعليا في بناء مجتمع يحترم الحقيقة ويسعى إليها، لا مجتمعا تنجرف بوصلته وراء ما تفرضه منصات التفاهة من استسهال وتبسيط مخل.
ورغم كل التحديات لابد أن يعود هذا التواصي، لكن لا يمكن أن يعود بالشكل القديم، بل يجب أن يتجدد بأسلوب معاصر يعتمد الحكمة، ويحترم الإختلاف، ويبتعد عن القسوة أو الإدانة.
إن إعادة الإعتبار لهذه القيمة مسؤولية جماعية لا تلقى على عاتق العلماء وحدهم، بل هي مهمة كل فرد قادر على قول كلمة بناءة في محيطه، وهي تبدأ بالإستعداد لسماع النصيحة قبل تقديمها، وبالإيمان بأن المجتمع القوي لا يبنى بالصمت، ولا بالمجاملات، ولا بتقديس منصات التفاهة، بل بجرأة الكلمة الصادقة.
وفي الأخير، يظل السؤال مفتوحا: هل نريد فعلا أن نستعيد ثقافة التواصي بالحق؟ إن كان الجواب نعم، فالبداية تكون منا نحن، من استعدادنا لسماع النصيحة قبل تقديمها، ومن إيماننا بأن المجتمع لا يستقيم بالصمت، بل بجرأة الكلمة الصادقة وعدالة المبدأ.
وهكذا، بين واقع يتغير وقيم تتراجع، يبقى التواصي بالحق امتحانا يوميا لضمير المجتمع، وإحدى البوصلة الأخلاقية التي لا ينبغي أن نفقدها.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر، وأن يوفقنا إلى قول الخير وفعله، وأن يردنا إلى قيمنا ردا جميلا.

اترك رد