إشكالية الإصلاح السياسي في المغرب: دراسة في الفجوة بين الخطاب الرسمي والممارسة الواقعية
بقلم: عبدالفتاح الحيداوي
المقدمة
يشكل مفهوم الإصلاح السياسي والتنمية المستدامة محورا مركزيا في الخطاب الرسمي المغربي منذ عقود، حيث تتواتر الإشارات إلى الإرادة العليا لإحداث تغييرات هيكلية تهدف إلى تعزيز الديمقراطية، ومحاربة الفساد، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين. ومع ذلك، يظل الواقع السياسي والاجتماعي يشير إلى وجود فجوة عميقة بين هذه الشعارات المعلنة وبين الممارسة الفعلية على أرض الواقع. هذا التناقض يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعة الإصلاح المنشود، وحدود إمكانيات تحقيقه ضمن النسق السياسي القائم.
تكتسب هذه الدراسة أهميتها من محاولة تحليل هذه الفجوة، والكشف عن البنى العميقة التي تعيق التحول الديمقراطي الفعلي، وتعيد إنتاج منظومة الفساد والريع. تهدف الدراسة إلى الإجابة على الإشكالية الرئيسية التالية: ما هي الأسباب الهيكلية التي تجعل الإصلاح السياسي في المغرب يظل محصورا في إطار الخطاب الرسمي والشعارات، دون أن يتحول إلى عملية تغيير ملموسة ومستدامة؟
تنطلق الدراسة من فرضية مفادها أن الفشل في تحقيق إصلاحات جذرية لا يعود إلى ضعف الإرادة السياسية الظاهرة فحسب، بل إلى طبيعة منظومة الحكم التي تستخدم خطاب الإصلاح كآلية لاحتواء الأزمات وتأجيل المطالب، بينما تحافظ على بنية اقتصادية وسياسية ريعية تخدم مصالح نخبة محدودة.
المحور الأول: الخطاب الإصلاحي بين الوعد والتنفيذ
غالبا ما يقدم الخطاب الرسمي في المغرب بوصفه تعبيرا عن إرادة إصلاحية متجددة، تستند إلى تعديلات دستورية متعاقبة وإلى إطلاق مشاريع تنموية كبرى يروج لها باعتبارها قاطرة للتغيير الاقتصادي والاجتماعي. غير أن القراءة النقدية المتأنية تكشف أن هذا الخطاب يظل في جوهره خطابا مناسباتيا يستدعى في لحظات سياسية محددة، كفترات الانتخابات أو عند بروز أزمات اجتماعية واحتجاجات شعبية، حيث يؤدي وظيفة امتصاص الغضب واحتواء التوتر أكثر مما يعكس التزاماً فعلياً بإصلاح بنيوي طويل النفس. ففي كثير من الحالات، لا يتجاوز الخطاب حدود الوعود العامة التي لا تُرفق ببرامج تنفيذية واضحة، ولا بجداول زمنية دقيقة، ولا بآليات مستقلة للتتبع والمحاسبة، وهو ما يجعل الإصلاح المعلن أقرب إلى إعلان نوايا منه إلى سياسة عمومية ملزمة. كما يتسم هذا الخطاب بقدر كبير من العمومية والفضفاضية، إذ تستعمل مفاهيم جذابة مثل “التنمية”، و“الحكامة الجيدة”، و“العدالة الاجتماعية” دون تحديد دقيق لمعانيها الإجرائية، ودون ربطها بمؤشرات قابلة للقياس أو بمسؤوليات سياسية واضحة، مما يسمح بإعادة تأويلها بحسب السياق، ويفرغها من مضمونها الرقابي. ويلاحظ، في هذا الإطار، أن التركيز ينصب غالبا على الإصلاحات الشكلية، كتحيين بعض القوانين أو تنظيم الاستحقاقات الانتخابية، في حين تبقى الاختلالات العميقة المرتبطة بتوزيع السلطة والثروة، وبالعلاقة غير المتكافئة بين المركز وباقي الفاعلين الاجتماعيين، خارج دائرة المساءلة الجدية. وتتجلى الفجوة بين الخطاب والممارسة بشكل أوضح عند فحص مآلات المشاريع التنموية الكبرى التي قُدِّمت، في أكثر من مرحلة، على أنها مشاريع استراتيجية لتحفيز النمو وخلق فرص الشغل وتقليص الفوارق المجالية. فقد أبانت التجربة أن عدداً من هذه المشاريع، رغم ضخامتها ورمزيتها، لم يُحدث الأثر الاجتماعي الموعود، بل تحوّل في بعض الأحيان إلى مجال لإعادة إنتاج منطق الريع، حيث استفادت منه فئات محدودة من المستثمرين المرتبطين بدوائر النفوذ، في مقابل ضعف العائد التنموي على الساكنة المحلية. ويمكن، على سبيل المثال، ملاحظة كيف أُحيطت بعض الأوراش الكبرى بخطاب رسمي يحتفي بالاستثمار والحداثة، بينما ظل تأثيرها على التشغيل المستدام أو على تحسين شروط العيش محدوداً، أو غير متناسب مع حجم الموارد العمومية المرصودة لها. هذا الواقع يعزز الانطباع بأن جوهر الخطاب الإصلاحي لا يستهدف بالضرورة إحداث تحول شامل في بنية الاقتصاد والمجتمع، بقدر ما يسعى إلى إعادة توزيع الامتيازات داخل النخبة الحاكمة، مع الحفاظ على التوازنات القائمة. وهكذا، يصبح الخطاب الرسمي أداة لإدارة التوقعات وشرعنة الوضع القائم، أكثر منه مدخلا فعليا لتغيير قواعد اللعبة السياسية والاقتصادية، وهو ما يفسر استمرار الفجوة بين وعود الإصلاح ومحدودية نتائجه الملموسة في حياة المواطنين.
المحور الثاني: حدود الإصلاح من الداخل: تحليل لتجربتي الإسلاميين
شهد المشهد السياسي المغربي منذ التسعينيات ظهور قوتين رئيسيتين حملتا لواء التغيير، هما حركات الإسلام السياسي (ممثلة بحزب العدالة والتنمية) والحركات الراديكالية (ممثلة بحركات الاحتجاج الاجتماعية والشبابية). وقد أظهرت تجربة كلتا القوتين حدود إمكانية إحداث تغيير جذري ضمن النسق السياسي القائم:
تجربة الإسلام السياسي: رهان “الإصلاح من الداخل”
تبنت حركات الإسلام السياسي خطابا براغماتيا يقوم على المشاركة المؤسساتية، متخلية عن خيار المواجهة الجذرية. وعندما وصلت إلى السلطة التنفيذية بعد عام 2011، اصطدمت بثلاثة معوقات هيكلية رئيسية:
1.سلطة المؤسسة الملكية (المخزن): ظلت القرارات الاستراتيجية الكبرى (السياسة الخارجية، الأمن، الاقتصاد الكلي) حكرا على المؤسسة الملكية وأجهزتها، مما جعل الحكومة المنتخبة تفتقر إلى السلطة الفعلية في مجالات حيوية .
2.الإكراهات الاقتصادية الدولية: خضعت الحكومة لضغوط المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي) التي فرضت وصفات جاهزة كرفع الدعم والتقشف، مما قيد قدرتها على تطبيق برنامجها الاجتماعي والاقتصادي المستقل.
3.محدودية الأداة الحزبية: لم يكن الحزب يمتلك شبكة نفوذ عميقة داخل الدولة العميقة (البيروقراطية، الأجهزة الأمنية، المؤسسات الاقتصادية الكبرى) تمكنه من فرض سياساته أو محاربة الفساد بشكل فعال.
النتيجة: خرجت هذه التجربة بـخيبة أمل شعبية واسعة، وفقدان للرصيد الانتخابي، حيث أثبتت أن المشاركة في السلطة التنفيذية لا تعني بالضرورة امتلاك سلطة التغيير.
التيارات الراديكالية: رهان التغيير الجذري
طرحت التيارات الراديكالية خطابا صداميا يرى أن الإصلاح مستحيل ضمن النسق القائم، وأن الحل يكمن في القطيعة الكاملة أو الثورة. وقد واجهت هذه التيارات مصيرين:
1.القمع والاحتواء: تعرضت هذه الحركات للقمع الشديد والملاحقة، أو تم تفكيكها واختراقها، خاصة بعد تراجع موجة الربيع العربي وتصاعد خطاب الاستقرار أولا .
2.الفشل في بناء البديل: فشلت في بناء بديل سياسي قادر على تعبئة الجماهير بشكل مستدام، وتحولت بعضها إلى العمل الخيري أو الدعوي، أو تراجعت إلى هامش المشهد السياسي.
المحور الثالث: البنية العميقة لمنظومة الريع والفساد
إن استمرار الفجوة بين الخطاب والواقع يعود إلى وجود منظومة فساد هيكلية لا يمكن اختزالها في سلوكيات فردية، بل هي جزء عضوي من آليات الحكم. تعمل هذه المنظومة على إعادة إنتاج نفسها تحت مظلة “المخزن” عبر أربعة مستويات رئيسية:
اقتصاد الريع والاحتياز
يعد اقتصاد الريع أحد الأعمدة البنيوية التي تقوم عليها استدامة المنظومة السياسية-الاقتصادية، حيث لا تدار الموارد الاستراتيجية وفق منطق السوق أو معايير الكفاءة والشفافية، بل تُوظَّف كأدوات للضبط السياسي وإعادة إنتاج النفوذ. ففي قطاعات حيوية كالمحروقات والصيد البحري والعقار والمناجم، يتم منح امتيازات احتكارية لنخب اقتصادية وسياسية بعينها، ليس بناءعلى القدرة التنافسية أو الجدوى التنموية، وإنما استنادا إلى منسوب الولاء السياسي والقرب من دوائر القرار. وبهذا المعنى، يتحول الاستثمار من رافعة للتنمية إلى مكافأة سياسية، ويغدو الولوج إلى الثروة مشروطاً بالانخراط في منطق الزبونية لا بروح المبادرة والإبداع.
ويترتب عن هذا النمط من التوزيع الريعي للثروة تقييد ممنهج للمنافسة، حيث تغلق السوق عمليا أمام الفاعلين الجدد والمقاولات الصغرى والمتوسطة، وتفرغ اليات العرض والطلب من مضمونها الحقيقي. كما يؤدي الاحتكار إلى تثبيط الابتكار وتكريس اقتصاد منخفض القيمة المضافة، إذ لا تجد النخبة المستفيدة أي حافز لتحسين الإنتاج أو تطوير التكنولوجيا ما دامت الأرباح مضمونة بفعل الامتياز لا بفعل الأداء. وهكذا تتحول المشاريع التي تسوق رسميا باعتبارها تنموية إلى قنوات لإعادة توزيع الريع داخل الدائرة الضيقة نفسها، بما يعمق الفوارق الاجتماعية ويقوض الثقة في السياسات العمومية.
ولا يقتصر أثر اقتصاد الريع على إنتاج نخبة محتكرة للثروة، بل يتعداه إلى خلق شبكة واسعة من التبعية البنيوية تضم فاعلين ثانويين من رجال أعمال محليين ومنتخبين ووسطاء إداريين، يرتبط وجودهم الاقتصادي واستمرار نفوذهم السياسي عضويا ببقاء المنظومة الريعية. فهؤلاء يشكلون حزاما اجتماعيا واقتصاديا دفاعيا حول النظام القائم إذ يصبح أي مساس بقواعد الريع تهديدا مباشرا لمصالحهم ومواقعهم. وبهذا، لا يعاد إنتاج الريع فقط عبر الامتيازات، بل عبر تحويله إلى ضرورة وجودية لشبكات واسعة من الفاعلين، ما يفسر قدرة المنظومة على الاستمرار رغم تعثر مؤشرات التنمية وارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي.
البيروقراطية والزبونية الإدارية
تستخدم الإدارة العمومية كأداة للضبط والتحكم بدلا من أن تكون فضاء لخدمة المواطن. تتجلى هذه الظاهرة في:
الزبونية والمحسوبية: توزيع المناصب والمسؤوليات بناء على القرابة أو الولاءات السياسية، وليس على أساس الاستحقاق والكفاءة.
البيروقراطية المعقدة: تستخدم الإجراءات الإدارية المعقدة كالية للابتزاز وتحصيل الرشاوى، مما يحول دون تحول الإدارة إلى فضاء للإصلاح.
أزمة المؤسسات الوسيطة (الأحزاب والقضاء)
1.الأحزاب السياسية: فقدت وظيفتها التمثيلية، وتحولت في كثير من الحالات إلى مجرد أدوات لتصريف السياسات الرسمية وإضفاء الشرعية الشكلية على النظام. كما أن الفساد الانتخابي (شراء الذمم، التحكم في لوائح الترشيح) يجعل العملية الانتخابية جزءا من منظومة الفساد نفسها.
2.القضاء: رغم الإصلاحات المؤسساتية، يظل القضاء خاضعا للتوجيهات المباشرة وغير المباشرة، مما يجعله أداة للتحكم أكثر من كونه سلطة مستقلة. يتجلى ذلك في الانتقائية في المحاسبة، حيث نادرا ما تفتح ملفات الفساد الكبرى بجدية، بينما يتم التركيز على قضايا صغرى لتقديم صورة زائفة عن محاربة الفساد.
الخاتمة والاستنتاجات
تؤكد هذه الدراسة أن الإصلاح المفقود في المغرب ليس غيابا للإرادة بقدر ما هو نتيجة هيكلية لطبيعة النسق السياسي الذي يعتمد على منظومة الريع والفساد كآلية لاستدامة الحكم وضبط التوازنات بين النخب. إن الخطاب الإصلاحي يعمل كـواجهة تجميلية تخفي واقعاً مؤزماً تحكمه قواعد غير مكتوبة أساسها الريع والزبونية وغياب المحاسبة الفعلية.
إن الحاجة إلى الإصلاح اليوم هي ضرورة وجودية وليست مجرد خيار سياسي. فاستمرار الفساد يؤدي إلى:
1.تآكل الثقة المجتمعية: مما يهدد الشرعية السياسية ويؤدي إلى العزوف عن المشاركة السياسية وتصاعد الاحتجاجات غير المؤطرة.
2.تهديد التماسك الاجتماعي: عبر تعميق الفوارق الطبقية وتوليد شعور واسع بالظلم وغياب العدالة.
3.تقويض المستقبل التنموي: حيث لا يمكن لأي نموذج تنموي أن ينجح في بيئة يهرب فيها الاستثمار وتهاجر الكفاءات بسبب غياب النزاهة.
شروط الانتقال إلى الإصلاح الفعلي
يتطلب الانتقال من “شعار الإصلاح” إلى “فعل الإصلاح” توافر شروط هيكلية لا يمكن تحقيقها بمجرد تغيير الحكومات أو القوانين الشكلية:
الاعتراف الصريح بالمعيقات البنيوية: التوقف عن تبرير الفشل بعوامل ظرفية أو تقنية، والاعتراف بأن المشكلة تكمن في تركيز السلطة والثروة في يد نخبة محدودة.
المحاسبة الشاملة والشفافة: إرساء آليات مؤسساتية تضمن خضوع الجميع، بمن فيهم كبار المسؤولين ومالكي مفاتيح السلطة والثروة، للمساءلة القانونية دون استثناء.
المشاركة المجتمعية الحقيقية: إشراك كافة مكونات المجتمع (النقابات، المجتمع المدني، المثقفون) في صياغة وتنفيذ الإصلاحات، لضمان عمقها الديمقراطي والاجتماعي.
إن الإصلاح الجاد هو ذلك الذي يقاس بمدى قدرة الدولة على تفكيك منظومة الريع، وتعزيز استقلالية القضاء، وإرساء الشفافية في تدبير المال العام، وإلا سيظل شعار الإصلاح مجرد كلمة فضفاضة تستخدم لتبرير استمرار الأوضاع القائمة.