تقرأ كلمات لبابة لعلج وتتأمل لوحاتها في عملها الجديد “همس الصمت”، فيتولد لديك انطباع بأن هذه المبدعة تكتب رسومات وترسم كلمات على جدار الزمن، وبذاكرة فيها الكثير من الحروف والألوان والأضواء والظلال، فيها الإنسانة التي تمزج مزجاً مدهشاً بين الشعر والرسم، وتقودك في بهو إبداع فسيح.
قرأت هذه الأبيات:
“أود تأمل الصمت.
ظمآنة، أرغب في السلام […].
أصبح صمت الامتلاء فراغاً.
يستحيل فراغه إلى كمال”.
وجدت أن فقرات الصمت بين الكلمات أهم من الكلمات نفسها. لا تعرف إذا كانت الشاعرة ترغب في الانسحاب إلى دواخلها لتتأمل “الضجيج الذي يسبق الصمت”، أو أنها ترغب في وضع خلجاتها وهمساتها في لوحة “بأصوات الألوان والنوتات”.
في قصيدة أخرى، تخاطب الآخر… الآخر الذي لا يسمع فتقول:
“لا يتصل قط الأصم بالكلمات […].
سكوته لم يرتضه […].
يصبح الأصم أبكم اللسان في نهاية المطاف!”.
بل أكثر من ذلك تخاطب الشاعرة صمتا آخر:
“الجنين في عالمه الرحمي ضرير وأصم!
يسمع ما يحيط به في أصوات.
أمه-الحضور تشعره بالطمأنينة”.
التعابير الواضحة والملتبسة بل وحتى المغلفة بالغموض إلى حد التجريد، الوضوح والمشاعر المتداخلة، تتجسد كذلك في لوحات لبابة.
إذا رأيت لوحة “أراك وتراني والزمن يمر” ستجد شخوصاً ووجوهاً يخاطبون بعضهم بعضاً، ولكن لحظات التأمل قصيرة جداً لأن “الزمن يمر”. تشير اللوحة إلى عام 2018، وكأن “الزمن مر” في تلك السنة.
وجدت في هذا التعبير لقطة تقاطع بين عنوان هذه اللوحة وبين فيلم “كازبلانكا” الذي يعتبر قمة الرومانسية في إنتاجات هوليوود. يتجسد هذا التقاطع عندما تهمس إنغريد برغمان، بطلة الفيلم، بصوت مفعم بالأنوثة والعذوبة إلى العازف سام في “مقهى ريك” أرجوك سام غني من أجل الأزمنة القديمة… لأن الزمن يمرُّ”.
عندما تتحدث الشاعرة عن الصمت، تكون لغتها رمزية بل أكثر. لنتأمل:
“أنا هنا قابعة فقط جنباً إلى جنب.
أتذوق ثراء الصمت”.
تمنح بهذه الكلمات للمتلقي الانطباع بأنها لا تكتب، تبدو عندما تهمس بهذه الكلمات كأنها تلتقط قطعاً من عملة أثرية نادرة.
حين تقول: “أنام أو أستيقظ دون أن أنزعج” تبدو كأنها تكتب بخليط من الوعي والوعي. نعم الوعي والوعي. توظف “لبابة” كلمة الصمت توظيفاً مدهشاً، إلى حد أنها تحاول تجسيده كي نراه:
“الصمت متعدد وأصداؤه متنوعة.
في هول الاغتصاب يقطع الأنفاس، يجعل الشعر ينتصب والظهر يقشعر”.
تقرأ أبياتها وعندما تصل إلى قصيدة “أمي سامحيني” تشعر فجأة أن فجوة كبيرة حدثت في الظلام نفذ منها صوت حزين هذه المرة، حزن أعمق من غور النهر، صوت يقول:
“أمي، سامحيني مجدداً، لم أكن أدري أي شيء !
أنت، رافقت آلامي خطوة بخطوة”.
في الجزء الأول من الكتاب، اختارت الشاعرة أن تكتب كتابات مفتوحة، لكنها بعد ذلك تروي حكايات ربما عن أشخاص في قاع الذاكرة، ربما عن نفسها.
في هذا الجزء، نقرأ:
“كانت دنيا متضايقة من ولادتها العصيبة.
لم تجد جواباً في أي مكان […].
دنيا، مقتنعة، خاضت غمار الرحلة”.
وفي مقطع آخر تقول: “أقبلت دنيا على الحياة قبل الأوان”. رغم الغموض الذي يفتح باب التأويل مشرعاً:
“كانت مولوداً نحيلاً وهشاً استطاع أن يقهر الموت”.
هل كانت تدين لعزيمة أمها بحياتها” ثم علامة استفهام. وتمضي لبابة متسائلة: “هل كانت تدين لحب أمها بحياتها” ثم علامة استفهام. وتزيد: “المولود ماذا كان يريد” ثم علامة استفهام. وتختم قائلة: “هل كانت مدينة” ثم علامة استفهام.
في قصيدة “رسالة شجرة” تقول:
“أغمضت دنيا عينيها واتصلت بها.
سؤالها يبرز من صميم قلبها”.
هذه الأسئلة تصب في اتجاه يجعل القارئ يسأل بدوره: هل “دنيا” هي “لبابة”، أم يا ترى طفلة مفترضة؟
في الجزء الثاني من الكتاب، ستختار الشاعرة عنواناً له حمولة كثيفة. عنوان من كلمة واحدة “أبجديتي”.
في هذا الجزء، تتداخل النصوص مع اللوحات التي رسمت بالألوان والأبيض والأسود.
أصبح لكل نص عنوان من كلمة واحدة: كالتالي “الهجر” و”الرفق” و”الجمال” و”الصرخة” و”القلب” و”التبعية” و”الرغبة” و”علم” و”الفضاء” و”الاستيهام” و”السخي” و”الكياسة” و”الصدفة” و”الهول” و”الوهم” و”البراءة”. في مرة واحدة فقط كان العنوان من كلمتين “مشهد أخاذ”. ظني أن هناك خيطاً رفيعاً يربط بين هذه العناوين، سأختار له بدوري كلمة واحدة وهي “الإنسان”.
لعل من مفاجآت هذا الكتاب وفكرته النادرة بأن تفصح الكلمات والألوان في صمت، إنه يشتمل كذلك على اقتباسات دالة، كما فعلت الكاتبة مع “كريشنا مورتي” حيث تقدمه في 13 كلمة، جاء فيها:
“المفكر والفيلسوف الهندي الذي أثار الكثير من الانشغال!
إنسان كوني يتوجه إلى العالم: “عندما تقولون:
هندي، مسلم، مسيحي، أوروبي، أو شيء آخر، فأنتم عنيفون.
هل تدرون لماذا؟ لأنكم تنفصلون عما تبقى من الإنسانية…”.
هناك أيضاً بورتريه مختزل إلى حد بعيد عن “وولف فيرجينيا” التي تقول عنها لبابة: “رومانسية إنجليزية، ناقدة أدبية وناشرة.
أتت للعالم بعدة مواهب”.
وتمضي إلى جملة بديعة فتقول: “إنها سقيمة، ومنهكة، مصابة بالأرق والسهاد”. هكذا تدفع المعاني إلى أقصى حدود تحملها.
توظف لبابة الألوان بكيفية مبهرة، إذا تأملت لوحة “الدجاجة تبيض ذهباً”، والتي كتبت عنها جملة توضيحية تقول: “مادة مختلطة على القماش”، ستجد أنها عبارة عن زفة ألوان، والدجاجة تطل بوجه آدمي.
في لوحة “حورية ملكية” سنجد شخصية فيها لمسة من الغموض ولمسة من العبوس ولمسة من المرارة، ولكن أيضاً نظرات فيها الكثير من التأمل.
التقيت الشاعرة لبابة لعلج مرتين، لقاءين مطولين، وجدتها إنسانة حالمة، لكن لا تفرض أحلامها على أحد. في عينيها نشوة عصفور. إنسانة تتميز بذكاء مرهف وروح مرحة وتشيع الابتسامة والتفاؤل على من حولها. تتحدث دائما بتهذيب وبصوت خفيض وبتواضع.
إنها حقاً شاعرة.
د. طلحة جبريل
كاتب وإعلامي
أبجدية الصمت المرهفة
يعاني المشهد الثقافي المغربي والعربي عامة من ندرة المؤلفات والإبداعات التي تُعْنَى بالجمع بين المكتوب والبصري كاستلهام اللوحات الفنية والصور الفوتوغرافية أو الانفتاح على المجال الأيقوني بشكل عام بالنظر إلى ما يمكن أن يرفد به الكتابة على مستوى إغناء التأويل، ووضع الإبداع أمام إشكالات وإبدالات جديدة.
استطاعت الفنانة لبابة لعلج أن تخوض غمار تلك المزاوجة بروح إبداعية وتأملية متفردة، فهي التشكيلية والكاتبة في آن، وهي المنشغلة بأسئلة الألوان والكلمات، وما تفرضه تلك اللعبة الفنية من معرفة مسبقة واستعداد إبداعي خاص، لأنه يندرج ضمن نوع من الاجتهادات الذاهبة والراجعة من منطلقين جدليين مختلفين: جدل اللوحة والكتابة.
وَطَّنَت الفنانة لبابة لعلج عملها الإبداعي ضمن سلسلة “كتابات ولوحات” للإشارة إلى الجمع الواعي والمقصود بين اللوحة الفنية والكتابة الإبداعية المنفتحة على القصيدة والشذرة، وقد قسمت عملها الموسوم بـ”همس الصمت” إلى شقين اثنين: “همس وصمت” و”أبجديتي”، فجاءت الأعمال متصادية في ما بينها، تجمعها روح متدفقة من منبع واحد أساسه تلك الذات المتأملة والمتألمة التي يدفعها البحث عن الحقيقة نحو الانسيابية والبوح الروحي والعاطفي والوجداني.
سلكت الفنانة لبابة لعلج في كتابها هذا مسلك الكتابة الحداثية التي تسعى للإمساك بنص متحرر من بعض الإكراهات الذاتية، فانتصرت للعين والنظر، وللبصر والبصيرة، فجاءت النصوص حبلى بالمكونات والإشارات البصرية اللافتة للنظر والتحليل، وهي بذلك تنحت تعبيريتها المناسبة. كان من الممكن أن يتمظهر الأمر عبر المواضيع المطروقة في الكتاب، لكن الكاتبة سَعَتْ إلى السير عبر طريق يمنح الإبداع تدفقه وحيويته وفاعليته؛ وطريق آخر، انْعِكَاسِيُّ المنحى، تعمل الكاتبة فيه على تغذية الكتابة من بواطن الداخل… والنتيجة، نَصٌّ حَدَاثِيٌّ يستدعي القوى التي تعمل في الشعر والشذرة والحكي، وكذا في مجالي النظرية والنقد الأدبيين.
شاع الضوء، وانتشرت الألوان في الكتاب حيث استدعت الكاتبة قاموسا (منيرا) ومناسبات تتقشع كلماته – تارة – في قصيدة، وتبرق أنواره- تارة أخرى – في شذرة أو نص إبداعي مفتوح…
تنشغل الكاتبة كثيرا بالطبيعة، وتحتفي بها في عناوين كثيرة من قبيل “نداء الغابة” و”شجرة الخل” و”تحت المنبع” و”لغة الريح” فتستدعي مختلف الحمولات الرمزية للماء والشمس والأرض والشعاع والعواصف وغيرها، فضلا عن التوظيف الواعي للعناصر الأربعة (الأسطقسات) والأثير… وكأننا بصدد تجوال مفتوح في الطبيعة أو قراءة نص منغمس في فلسفة البيئة.
ينقلنا هذا الكتاب من الحياة الضاجة التي نحياها، ويجعلنا في قلب الصمت النابض، ذلك أن الإنصات للذات يصير رديفا للوحدة الطوعية التي يعيشها الفنان أو المبدع قصد تبديد ظلمة الحيرة، واقتناص الوحدة الساعية لتحقيق السلام الداخلي وتجاوز الانتظارية الوجودية المتشائمة. لقد احتفى الجزء الأول من هذا الكتاب الفني بموضوعة الصمت بشكل كبير كما ينجلي في بعض النصوص من قبيل “الصمت الذي ينجب” و”الصمت يحجب عتماته” و”صمت المتوحد” و”صمت الأصم” وكأننا أمام نصوص حكمية عاكسة لنفسية صاحبتها التواقة إلى السكينة الداخلية، والراغبة بإلحاح في تجاوز أشواقها المرة، وذلك عبر الجمع بين أشكال تعبدية وروحانية تُعَبِّرُ عن العمق الإنساني الذي يمكن أن ينعكس صفاؤه الروحي ضمن تعبيرات جمالية تفيض عبر اللغة أو على سطح اللوحة.
لِكُلٍّ أبجديته، لكن أبجدية الفنانة لبابة لعلج ثنائية المنحى، فقد اختارت أن يكون لكل حرف مَنْحَيَان اثنان، وفي هذا التوظيف ولوجٌ لعالم المثنويات الآسر، فلطالما شغلت الثنائيات حياة الإنسان، وألهمت فكره ووجدانه، فالجسد يتضمن الثنائيات العضوية، والحياة طافحة بالثنائيات المتآلفة والمتضادة في آن، لكن تشغيلها الإبداعي يرتبط بمدى قدرة المبدع على التقاط اللامرئي، وتجسير علاقة القارئ به كما عملت على ذلك نصوص الأبجدية في هذا الكتاب، ساعية إلى وضع الواحد في مرآة توأمه كي يتحقق التكامل وتنكشف المعاني…
تحيل تلك الأبجدية على ما قام به الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، سيما أنه ظل مسكونا بفكرة البحث عن بناء المفاهيم وتجديدها باعتبارِه ينظر إلى الفلسفة كبناء للمفاهيم. يهتم ذلك الفيلسوف بمسألة الحدود والترحال (Nomadisme) المفاهيمي التي تُطَوِّرُ الفكر والإبداع كما يحد المد الحضري من الترحال والبدونة مما يؤدي إلى تآكل الحدود. فأن نكتب ضمن حدود التخصص معناه أننا نحد من التدفق الإبداعي، وأن نخرج عن حدود التخصص معناه أن نحرص على وضع علامات جديدة في خريطة الإبداع باعتباره يتجاوز فكرة الحدود بالمعنى الدقيق للكلمة.
اعتمدت الكاتبة لبابة لعلج في كتابها الإبداعي “همس الصمت” (في شقيه الأول والثاني) على اعتماد مقتبسات استقتها من الفلسفة والحكمة والأدب، فضلا عن حضور أسماء الفلاسفة (فيتاغورس، سقراط، أفلاطون…) والأدباء والفنانين (أندي وارول، ييف كلاين…) ليس من أجل التوظيف فقط، وإنما لخلق نوع من السجال الفكري – هنا والآن – بين الذوات المبدعة التي غامرت بكل ما لديها كي تترك أثرا مغايرا. فالكتابة مغامرة، والكتابة المُغَامِرَة تجاوزٌ لذاتها. هكذا سعت لبابة لعلج إلى أن تخلق عالمها التعبيري الخاص داخل اللوحة والنص، وهي بذلك تحاول تثوير التعبيرية داخل بؤر رهيفة كي تتجاوز هشاشة الكائن الوجودية، والقبض على رهافة الحياة داخل دلائل اللغة في ارتباطها بالوجود.
ونحن نفرغ من قراءة هذا الكتاب الماتع تشغلنا فكرة إبداعية ناظمة لتفاصيله: طموح الذات المبدعة لوضع أبجدية شفيفة للصمت.
د. محمد اشويكة
كاتب وباحث جمالي