فاس.. دورة المنهجية الفقهية في المذهب المالكي لفائدة طلبة دكتوراه الشريعة والقانون

ينظم كل من مختبر الدراسات التطبيقية في الشريعة والقانون -كلية الشريعة – جامعة سيدي محمد بن عبد الله ومركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي بالرابطة المحمدية للعلماء، دورة عن المنهجية الفقهية في المذهب المالكي من خلال كتاب فتح الفتاح لابن رحال المعداني (ت1140هـ)، وذلك من 24 يونيو المقبل إلى 27 منه.

وأضوح بلاغ مشترك للمنظمين أن الغرض الأساس لهذه الدورة المنظمة لفائدة طلبة الدكتوراه في الشريعة والدراسات الإسلامية والقانون الخاص بالجامعات المغربية، هو التعريف بالمنهجية الفقهية للمذهب المالكي بصفته أحد الأنظمة التأويلية المعتبرة للشريعة، الموصولة بطريقة الصحابة والتابعين، والمبنية عليها، والمتفرعة عنها، والمبلورة لها، بحيث لم تَعتمد الأمةُ طرقا غيرها لتعريف الشريعة، وتنفيذ أحكامها.

والمقصود بالمنهجية الفقهية جملة الأساليب العلمية والمنهجية التي كان الفقهاء يدبرون بها بيان الأحكام الشرعية، وتطبيقَها، ووراثتَها في مختلف البلدان والأعصر والبيئات، وهي منهجية اتسمت بالدقة، والجماعية والتراكم عبر الأجيال، وألَّفت صيغة فريدة للتوازن بين التطور والثبات الذي يتسم به الدين الإسلامي وشريعته.

وهذه المنهجية هي التي ضَمِنَت تطبيق الشريعة طيلة التاريخ، على هدي “الواقعية الأخلاقية” التي أسسها الصحابة، بعيدا عن “النزعات المثالية” التي نبتت في التاريخ الإسلامي وبقيت على هامشه، وأبرزها المثاليات الأربع: الفوضوية “الخوارج”، والعقلانية “المعتزلة”، والظاهرية “المذهب الظاهري”، والباطنية “غلاة الحلولية ـ المهدوية”.

ولهذا، فإن الاشتغال الفقهي وما تشكل فيه من مناهج وأساليب وتراث كبير، يتسم بالنظام الدقيق والتفسيرية العالية، كما يتكامل بشكل بديع مع شبكة المعارف والقواعد المقررة في سائر العلوم الشرعية واللغوية والعقلية.

ولهذا السبب فقد كان “المذهب الفقهي” هو الحاضنة التشريعية والدينية للاستقرار الاجتماعي والعمراني والجمالي، والاعتدال الذي يسم الشخصية الإسلامية تاريخيا، مما بقيت آثاره إلى الآن.

إلا أن المنهجية الفقهية المذهبية قد تعرضت للتشكيك والتشويه في العصر الحديث منذ بداية التحديث الكولونيالي للمجتمعات الإسلامية منتصف ق 19م، على يد المستشرقين أولا، ثم على يد بعض المتأثرين بهم من المثقفين المسلمين عديمي الخبرة بالعلوم الشرعية، أو الذين سبقت إليهم أفكار أجنبية، فتجرأ عدد منهم على وصم الفقه المذهبي عموما بالتعصب، وتفريق الأمة، والتقليد، والجهل، وشَغْل الأمة بالجزئيات، وتقديس آراء الرجال، والتحالف مع الاستبداد، وما إلى ذلك مما قيل لتسويغ تنحيته، والاستغناء عنه بذريعة عدم صلاحيته في العصر الحاضر.

لذلك شاعت “تأويلية جديدة” للدين، منافية تماما لتأويلية المذاهب الأربعة، معادية لمؤسسات الإسلام وأنظمته التاريخية، وقواعده المستقرة، منقسمة بين “المقاصدية والتجديد والدنيوية” في المعاملات، وبين “اتباع السنة، وظواهر الآثار” في العبادات. وهي توليفة مدمرة بامتياز، لم تُقرأ عواقبُها قراءة متأنية، حيث آل أمرها إلى إنشاء بيئة «إسلامية» تتعاقب فيها نزعة الفوضى الاجتماعية تارة، وتفكيك الدين تارة أخرى.

وللأسف، فإن مخرجات هذه البيئة، قد تمدد وساد في عدد من الأبحاث والأطاريح الجامعية في الشريعة والدراسات الإسلامية عموما، وهذا من شأنه أن يفقد الجامعة وظيفتَها في ترشيد المجتمع وإمداد الدولة والعالَم بالأجوبة والخبرة في مجال اشتغالها وتخصصها، حيث أصبحنا بدلا من ذلك، أمام بعض من يعيد إنتاج مقولات بعيدة عن الرسالة المعرفية للجامعة، مدبجة بالمثالية والخطابية والعاطفية، والتسرع والجرأة، والعداء للتاريخ والمؤسسات، مع افتقاد الحجة، والتماسك الشكلي، واحترام رسوم العلم.

إن أبحاث عديد من الطلبة وما يكتبون من أعمال تتداول- بشكل مقلق- خطابا من المقولات غير المستدل عليها، ومعجما من المفاهيم غير المعرَّفة، وتقريرات من الأحكام التي لم تستوف حججها، مع جرأة غير مسبوقة على إطلاقها على عواهنها، وافتقاد الحس بالمسؤولية العلمية، وعدم التبصر بالمآلات التي تنتهي إليها بعض الإطلاقات والكلام المرسل.

وهذا الوضع أنتج آثارا وأوضاعا لا نحسد عليها، مع ما تنذر به من عواقب لا تحمد، ومآلات صعبة، خصوصا وأن أجيال المستقبل تحيط بها عوالم وظروف ثقافية عالمية مهددة بالضياع، تستوجب أن نحافظ لها على انتمائها ومؤسساتها الدينية والثقافية والعُرفية دون تبديل ولا تغيير.

وعلى صعيد البحث العلمي، يتعين الاشتغال على طريق للبحث في الشريعة والدراسات الإسلامية أكثر علمية وتفسيرية، وأقوى مسؤولية، واحتراما لقواعد البحث الفقهي والأصولي والحديثي، يتسم بالولاء لسياقات هذه العلوم وأهدافها في الوجود، والالتحام ببنياتها وأنساقها وأساليبها المنهجية المتوارثة، وطرق استمرارها في حياة الأمة، والتعامل مع التحديات التي تواجهها، ورفع درجة تبصير الأجيال بالروح التي وسمتها تاريخيا، وهي: الحفاظ الموصول على الدين والشريعة مع حماية الاستقرار وسكون الأحوال في المجتمعات الإسلامية، وفي قلب تحديات الزمن ومعتركات الوقت.

وتأتي هذه الدورة في سياق التعاون والتنسيق بين مختبر الدراسات التطبيقية في الشريعة والقانون كلية الشريعة جامعة سيدي محمد بن عبد الله ومركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي التابع للرابطة المحمدية للعلماء لترشيد البحث العلمي في الشريعة والدراسات الإسلامية، وما يتصل بهما من علوم إنسانية.

واختارت هذه الندوة التعريف بالمنهجية الفقهية في المذهب المالكي، بصفته أحد المذاهب الأربعة المعتمدة في الشريعة، واقترحنا كتاب فتح الفتاح لابن رحال المعداني (ت1140هـ) أنموذجا؛ لكونه أوسع مصدر موجود جمع هذه المنهجية، إذ وصف بأنه “كاد لا يفوته نص من نصوص المذهب”.

ففي هذه النصوص تكمن منهجية فقهية عميقة وراسخة، عليها كان العمل، وبها توفر الاستقرار الفكري والتشريعي والعرفي والعمراني للمجتمعات التي استندت إليها.

ولا تزال بقايا هذه المنهجية مما يقوي عوامل الاستقرار والتوازن، رغم أن العصر الحالي طرح صعوبات جمة على الشريعة، تُلزم الفقهاء والباحثين بذل قصارى الجهد لاستيعاب هذه التحديات، والحفاظ بسلاسة على أقصى ما يمكن من أنظمة الشريعة وعلومها وقواعدها والأعراف الاجتماعية المتفرعة عنها. وهو الجهد الذي لم يبذل فيه جهد منظم لحد الآن.

وأعرب المنظمون في أن يسهم التعريف بهذه المنهجية في إفادة الطلبة والباحثين بما لم يتح لهم الوقوف عليه بشكل مركز ومكثف، من أسرار الصناعة الفقهية، ومناهج العلماء في تدبير بيان الشريعة والحفاظ عليها وعلى مجتمعها، طيلة التاريخ وإلى الآن في حدود ما يسمح به الزمن.

وتنسلك المنهجية الفقهية للمذهب المالكي في مسارات متوازية ثلاثة:

أولا: مسار المتن المذهبي، ومنهجية توثيقه وتأويله وشرحه، ثم ما تركب عليه من تخريجات وتعاليق وشروح وتحريرات، توسعت بها المرجعية المذهبية وأحكمت بها قواعد المعرفة الشرعية، وتدبير الحياة على أساسها. وهذا هو المصطلح عليه منذ القديم بـ: “المذهب”، وهو الذي يحتوي عالما متفردا من القواعد والقيم المنهجية وطرق الاشتغال، وكان له أئمة وشيوخ بهم تطور، وباجتهاداتهم تبلور.

ثانيا: مسار الاستدلال والتوجيه والتعليل والنظر والحجة، ومبناه على كون أقوال إمام المذهب والروايات عنه مجرد إخبار فقهي مظنون عن الشريعة، وتفسيرٌ لأحكامها مؤسَّس على أصول وقواعد وأنظمة تأويلية محررة، ومستدل عليها؛ ولذلك فإنه لا يُعتمَد حجة في الدين إلا إذا ثبت أنه تفسير صحيح للكتاب والسنة وفق اللغة العربية وأصول الفقه.

كما لا يعتمد حجة إلا بعد تفنيد التأويل المخالف، والاستدلال على رد الدليل المعارض؛ ليحصل الترجيح الذي به يصح اختيار إمام المذهب واعتماد أقواله.

ويحتوي هذا المسار ما تراكم من جهود وأنظمة لأحكام القرآن وتفسير الحديث، والقواعد الفقهية والأصولية، والخلافيات واختلاف العلماء، والانتصار، إذ هي أوعية هذا الفن من علوم الفقه.

ثالثا: مسار النوازل والقضاء والفقه التطبيقي عموما، وهو مسار عملي يغلب عليه التفريع والتنزيل، وليس من صلاحيته إعادة تأويل الأحكام الشرعية على أسس أخرى، بل إن الفقه التطبيقي عموما يأخذ المذهب جاهزا بنظامه التأويلي، ومنهجه في الاستدلال والتأصيل، وينصرف اهتمام أهله إلى الاجتهاد في أقوم المناهج لـ”تحقيق المناط”، وتطبيق الشريعة حسب ظروف الزمان والمكان، وحسب الأعراف والأحوال، وهو باب غايةٌ في التشعب والامتداد، يقتضي خبرات إضافية وقواعد جامعة بين معرفة الشرع وأحوال الوقت.

اترك رد