أين اليسار؟!
بقلم: محمد زاوي
أصبحنا اليوم نرى يسارا لا كاليسار، لقد انتهى بصيص اليسار الذي كنّا نعرفه. صحيح أن اليسار بدأ مساره في المغرب بأخطاء نظرية وعملية حالت دون مغربة “منهجه الخاص في التفكير”؛ إلا أن هذا اليسار أنتج على الأقل أمثال الجابري والعروي والموذن وبلال وبلكبير وحرزني والبردوزي.. الخ. اليوم؛ يعيش اليسار غيابا حقيقيا لبوصلة النظر. الإصلاحي منه أكثر نفعا وأقل ضررا، رغم ليبراليته واشتراكيته الطوباوية (اللاعلمية). أما بقايا الجذري منه فقد انتقلت من “اجتماعية ماركس” إلى أفكار من “العدمية ” و”العولمية” و”التفكيكية” و”اللاأدرية” و”النيوليبرالية” الخ.
بعض “اليسار” أصبح أصوليا أكثر من الأصوليين أنفسهم، بعضه أصبح رجعَ صدى للخطاب الحقوقي لما بعد سقوط جدار برلين، بعضه صفق بحرارة ل”الربيع الأطلسي”، بعضه يستعصي عليه فهم السياسة كسياسة فيمارس الوهم، بعضه اتخذ من قيم التعفن الرأسمالي شعارات له، بعضه يخلط بين مطالب البورجوازية الصغيرة ومنحى الوعي المادي الجدلي في التاريخ، بعضه يتحلى بانتهازية نضالية يفر بها من انتهازية المصالح الخاصة، بعضه يتحدث في كل قضية إلا قضية “الوعي النظري”، بعضه يدافع عن كل الكائنات الحية ما عدا العامل ينتج القيمة وفائضها، بعضه يدافع عن كل حركات التحرر الوطني ويعوزه التحليل إذا تعلق الأمر بمصلحة وطنه!
أفرز اليسار المغربي ثلاثة مسارات على المستوى الفكري؛ تيار ليبرالي/ اشتراكي طوباوي، وتيار فوضوي عدمي، وآخر نظري جدلي. التيار الثاني عرقل النضال التقدمي أكثر مما دفعه إلى الأمام، فلا هو عبر حقيقة عن التناقض الرئيس لمغرب الاستقلال، ولا هو ترك اليسار لرهاناته النظرية والعملية المطلوبة تاريخيا. وعلى النقيض من المشاركة في مشروع حداثة الدولة بما له من أهمية ونجاعة (لا ينفي أن تكون المشاركة نقدية)، وعلى النقيض من إخضاع الممارسة العملية للتنظير المادي الجدلي، حافظ التيار الفوضوي العدمي على “عقائديته المثالية” في قضايا الأولوية فيها للنظر الموضوعي، لا المشاعر الذاتية.
أكبر مشكل تخبط فيه اليسار منذ نشأته أنه لم يستوعب إلى الحدّ المطلوب الشرط المغربي في بعدين، في بعده الديني الراسخ، وفي بعده السياسي الخاص. كانت هناك مراجعات في العلاقة بالمسألة الدينية، إلا أنها بقيت منحسرة ولم تبلغ مداها في تفكير اليسار المغربي. أما المراجعة السياسية، فإلى اليوم تُعتبَر تراجعا وتحريفا لخط اليسار. الخطاب الناقم الموجه ضد بعض رموز “23 مارس” ومراجعات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وتفرد مسار “الشيوعيين” المغاربة؛ هذا الخطاب يكشف عن مدى مثالية اليسار الفوضوي وانفصاله عن الواقع في جوهره الاجتماعي.
فلنضع جانبا كتب العروي والجابري والخطيبي، فلنضع جانبا كتابات إدريس بنعلي وعزيز بلال في الاقتصاد السياسي، فلنضع جانبا اجتهادات الغرباوي في مغربة الجغرافيا، اجتهادات الموذن في الاقتصاد السياسي ومناهج المعرفة، كتابات بلكبير في المسائل الفكرية والدينية ومستجدات السياسة، مساهمات أخرى لكل من البردوزي وحرزني وعلال الأزهر وبلقزيز… فلنترك هذا جانبا ولنتساءل بكل جرأة: كيف فهم اليسار المغربي ما جرى منذ سقوط جدار برلين إلى اليوم؟ ولنكن أكثر تحديدا: كيف فهم ما جرى طيلة عقدين من الألفية الجديدة؟ وما العدة التفسيرية التي استصحبها لفهم ما يجري في بداية القرن 21؟ أين هي المقالات والكتابات الجديدة التي نفخت في المنهج المادي الجدلي من “روح العصر”؟ أين هي الأوراق والدراسات التي تناولت مستجدات “غزو العراق” و”فتنة الربيع” و”متغيرات الداخل الأمريكي” و”صعود الصين” و”قضية فلسط_ين” و”فتنة الربيع”؛ أين هي الكتابات التي تناولت هذه المستجدات بمرجعية نظرية ماركسية؟
هذه اسئلة تجيب عن نفسها، تقول كل شيء عن لا شيء، إلا مِن نزر قليل هو للمؤسسين، لا للجيل الليبرالي من اليسار، يسار ما بعد سقوط جدار برلين، وأغلبه يسار تبعي وجد ضالته في الخطاب السياسي والحقوقي العولمي، كما وجد بعض شيوعيي أمريكا ضالتهم في “أدلوجة الحزب الديمقراطي”! أزمة اليسار المغربي نظرية بالأساس، حالت بينه وبين “التحليل الملموس لواقعه الملموس”، وبالتالي بينه وبين الممارسة السياسية السديدة، تلك التي لا تمتح من خطاب “أخلاقوي”، وإنما من المبدأ المادي الأبرز: “الحقيقة خارج شعورنا”.