إذا أتاك الزمان بضرّه •• فالبس له ثوب الرّضا
بقلم: رشيد مصباح (فوزي)
فتح عينيه على آذان الفجر، فعاد ليكمل نومه على الجانب الأيسر، ودثّر رأسه كي لا يسمع صوت الآذان معلنا دخول صلاة الصبح: ”برودة الطقس.. وحمام البيت معطّل“… وراح صاحبنا يلتمس الأعذار لنفسه، الواحد تلو الآخر.
بسبب وقاحة بعض الفضوليين قرّر صاحبنا الامتناع عن حمّام الحيّ الذي لايبعد سوى ببضع الخطوات. وبرغم العلاقة الطيّبة التي تربطه بصاحبه. لكنه يشعر بالغثيان عند رؤيته هؤلاء التّافهين.
”الله يلعنك يابليس، و يخزيك يا شيطان“؛ هو الذي في كل مرة يريد أن يعود فيها إلى الله إلاّ وأفسد اللّعين عليه شعوره بالطمأنينة والرّضى. الله يلعنه ويخزيه. لكن لو نطق إبليس لهجانا؛ لقد جعل الناس من مجرّد وسوسة شمّاعة، يعلّقون عليها جميع الذنوب والآثام التي يقترفونها و”بسبق الإصرار والترصّد“.
استحضر كامل قِواه وتوكّل على الله، و”الحمد لله الذي لا إله سواه“. وتخلّى صاحبنا عن بعض هذه الهلاوس والهواجس، ونهض مسرعا، وراح يسابق الزّمن؛ لم يعد يروق له تأخير الصّلاة المفروضة.
هو على موعد اليوم مع صيدلية المحطّة؛ يحرص صاحبنا على العودة مبكّرا، كي يقدّم الدّواء. الأمر ”مثل الصّلاة“ لا يقبل التأجيل. لكن، إذا كان الله غفورا رحيما ويعفو عن كثير… فإنّ المرض لا يغفر ولا يرحم ولا يمنحك فرصة ثانية.
السخّان معطّل وكذلك المضخّة؟
لم يتردّد في حمل الوعاء والتوجّه إلى حيث يوجد خزّان الماء البلاستيكي بـالمرآب أو”الكراج“. وراح يملأ الوعاء بواسطة الدلو وعاد إلى المطبخ ليقوم بإشعال الموقد ووضع عليه الإناء الكبير. ثم من المطبخ توجّه إلى الدّش، وكان هذا الأخير يعاني من الفوضى، في حاجة ماسّة إلى التنظيف والتوضيب كي يكون جاهزا. فأعاد ترتيبه وتوضيبه وتجهيزه.
وبعد الاستحمام، خرج صاحبنا يلهث، متسارع الخطى. وصعد أعلى حيث غرفة النوم؛ أين قام بارتداء أثوابه البالية، ولسان حاله يقول كما قال الشاعر قديما:
إذا أتاك الزمان بضره •• فالبس له ثوب الرضا
وارقص للقرد في دولته •• وقل يا حسرتاه على ما مضى.
وألقى بالسجّاد على البلاط وأقام الصّلاة، ثمّ كبّر، وراح يتلو فاتحة الكتاب. وصلّى صاحبنا صلاة الصبح الفريضة و ركعتي الفجر السنّة ”ضحًى“. ومن سوء حظّ المسكين فهو كثير النسيان لا يدري كم صلّى.
أخشى ما يخشاه أن يكون هذا بداية مرض ”الزهايمر“اللّعين الذي تفشّى بصورة خطيرة بين الكهول ولم يعد يقتصر على كبار السن.
وأمّا المرض العضوي؛ كالذي عانى منه منذ عقد مضى و أقعده في الفراش حوالي سنة وحتى فقد صاحبنا الأمل في الحياة خلالها، وترجّى الله أن يمنحه فرصة ثانية كي يتوب ويعود ليعمل صالحا… كل ذلك لم يعد يؤثّر على صاحبنا بقدر ما بات يحذر المسكين من الأمراض والعاهات النفسيّة مثل الكآبة والرّهاب الذي عانى منه وحرمه من لذّة الحياة طيلة سنوات.
أخيرا خرج”المعتوه“ وكأنّما ”نشط من عِقال“و” طريق الشّاوي بين عينيه“ كما جاء في المثل. وتجنّب الطريق الرّئيس، وتسلّل عن الأنظار كي يستذكر الأيّام الخوالي: هنا ركض صاحبنا حين كان طفلا، ورمى بنفسه على الأرض. وفوق تلك الشّجرة المعمّرة التي قاموا بقطعها ”دون رحمة ولا شفقة“ اصطاد العصافير ووو… حتى وصل إلى المكان الذي كلّما رآه تألّم؛ في هذا المكان بالذّات كان يرتدي بدلة سوداء وربطة عنق مخطّطة بالأحمر والأبيض حين أخذ أبوه له صورة بالأبيض والأسود. وعلى شفتيه ابتسامة تعانق أطيافه.كان يومها في الأولى ابتدائيّة.
وها هو قد وصل إلى محطّة القطار؛ هي الأخرى تذكّره بالأيّام السّعيدة ومغامراتها. ومنها سيعبر عبر بوّابة الزّمن الجميل إلى الواقع المرير. وحيث الصيدلية، لم تعد كما كانت عليه من قبل؛ قبل رحيل صاحبها -رحمه الله وطيّب ثراه وألهم أبواه الصّبر والسلوان- وبخطى متثاقلة خرج صاحبنا المهموم والأسف يملأ قلبه المكلوم.
وبينا هو كذلك، وجد صاحبنا نفسه يقطع الطّريق الرّئيس على صوت المحرّكات المزمجرة. وقد ألمه ما رآه من ”حُچرة“ وعدم اكتراث أصحاب المركبات ”المجنونة“ بحال الشيوخ العجزة والمارّة الرّاجلين.
وراودته الهلاوس من جديد وراح يتطلّع إلى وجوه أصحاب تلك المركبات المزمجرة لعلّه يعرف واحدا منهم. لم يكن صاحبنا بدعا من هؤلاء ”المجانين“، ولكن لم يكن ”حچّارا“ مثلهم، يحتقر الشيوخ العجزة والنساء والمساكين؛ وهذه شهادة يدّخرها العبد الضّعيف ليوم الوعيد؛
كم يضيق صدر الإنسان لمجرّد رؤية هؤلاء ”الرّعاع“ الذين انتجتهم العشرية السّوداء.
على وقع الهواجس استفاق صاحبنا ليجد نفسه بباب البيت.