الجزائر بين ارتباك القرار الدبلوماسي وتنامي العزلة الإفريقية والدولية
لم تكن لهجة البيان الجزائري الصادر في 7 أبريل 2025 تجاه مالي والنيجر وبوركينا فاسو سوى تعبير صارخ عن أزمة أعمق تضرب الأداء الدبلوماسي الجزائري وتكشف عن ارتباك متصاعد في مواقف الدولة إزاء محيطها الإفريقي والدولي. البيان الذي اتسم بلغة هجومية غير معتادة، وُضع في سياق رد فعل على اتهامات صدرت عن حكومة مالي الانتقالية، لكنه في العمق يعكس عزلة سياسية متنامية تواجهها الجزائر في منطقة كانت تُعدّها حديقتها الخلفية لعقود.
1. خطاب انفعالي يفضح المأزق
من حيث الشكل، جاء البيان محمّلاً بمفردات لا تليق بخطاب رسمي لدولة بمكانة الجزائر التاريخية: “زمرة انقلابية”، “اتهامات باطلة”، “عدائية”، “مشروع فاشل”، بل واتهامات علنية للنيجر وبوركينا فاسو بـ”الاصطفاف الأعمى”. مثل هذا الخطاب لا يصدر عن طرف واثق من موقعه الإقليمي، بل عن سلطة سياسية تشعر بخسارة النفوذ، وتعجز عن استيعاب التحولات المتسارعة في الخارطة الإفريقية.
لقد كانت الجزائر – تقليديًا – تحرص على الظهور بمظهر الوسيط الهادئ والمحنّك في أزمات الساحل، لكنها اليوم تُقدِّم نفسها كطرف في النزاع، بل وتُسرع إلى سحب السفراء وتجميد التمثيل الدبلوماسي، في خطوات لا تُسهم سوى في توسيع دائرة القطيعة وقطع خطوط التفاهم الضرورية.
2. قطيعة مع الجوار الإفريقي… أم استقالة من إفريقيا؟
ما يثير القلق هو التراكم التدريجي لمظاهر القطيعة مع العمق الإفريقي: انسحاب ضمني من قيادة المبادرات الأمنية في الساحل، تغييب عن التنسيقات الجديدة التي تقودها “تحالفات الساحل” بقيادة دول انقلابية سابقة، وتوتر دبلوماسي غير مسبوق مع ثلاث دول إفريقية محورية.
في المقابل، تتقدم قوى أخرى – إقليمية وخارجية – لملء الفراغ: تركيا، روسيا، الإمارات، وحتى إيران، جميعها تنسج تحالفات جديدة في فضاء كانت الجزائر تعتبره امتدادًا طبيعيًا لها. لكن هذه الدول لا تملأ فقط الفراغ الأمني، بل تسدّ أيضًا غياب الرؤية الجزائرية المتماسكة، في وقت بات فيه التردد والجمود سمتين بارزتين في أداء الخارجية الجزائرية.
3. من خطاب الثورة إلى خطاب المظلومية
في العقود السابقة، طالما استثمرت الجزائر في خطاب التحرر الإفريقي والنضال ضد الاستعمار، لكن اليوم يبدو أن هذا الرصيد الأخلاقي قد استُهلك بالكامل، دون أن تُواكبه أدوات جديدة. فالجزائر التي كانت تُلهم الدول الإفريقية بتجربتها الثورية، باتت اليوم تُعاني من خطاب دفاعي يرتكز على نظرية المؤامرة والمظلومية والعزلة، دون أن تُقدِّم مشروعًا حقيقيًا يُلهم محيطها أو حتى يُقنع شركاءها.
إن التراجع في الحضور الدبلوماسي داخل القارة الإفريقية لا يُمكن أن يُفهم خارج سياق أزمة أعمق: غياب السياسة الخارجية المتجددة، واستمرار الانغلاق على مقولات الحرب الباردة، بينما يتجه العالم – وإفريقيا تحديدًا – نحو شراكات أكثر مرونة، لا تعترف بالمكانة التاريخية المجردة بل بالمبادرة والفعالية.
4. ارتباك دولي وتضاؤل الهوامش
وإذا كانت الأزمة الإفريقية تكشف عن اختلال في موازين التأثير، فإن المشهد الدولي لا يبدو أكثر إشراقًا بالنسبة للجزائر. علاقتها مع الاتحاد الأوروبي تمرّ بمرحلة فتور، والتقارب مع روسيا لم يترجم إلى وزن حقيقي في الملفات الدولية. أما الرهان على الغاز كورقة ضغط جيوسياسية، فلم يُثمر إلا على نحو ظرفي ومحدود.
في المحافل الدولية، لم تعد الجزائر تحظى بموقع “الدولة المرجعية” كما كانت في سبعينيات القرن الماضي. حتى مقاعد التمثيل في الهيئات الدولية تُفلت تباعًا، دون أن تُرفق بذلك مراجعة جريئة لمكامن القصور الداخلي في الأداء السياسي والدبلوماسي.
هل تُدرك الجزائر حقيقة اللحظة؟
إن البيان الأخير لم يكن سوى عرضٍ من أعراض أزمة أشمل: أزمة موقع ودور وهوية دبلوماسية في عالم يتغيّر بسرعة، وتُعاد فيه صياغة التحالفات على أساس النجاعة لا الخطابات الرمزية.
ولعل السؤال الأهم اليوم ليس: لماذا تهاجم الجزائر شركاءها الأفارقة؟ بل: لماذا تفقد الجزائر حلفاءها؟ وهل تدرك السلطات الجزائرية أن لغة البيانات الغاضبة لا تُعالج العزلة بل تُفاقمها؟
إن العودة إلى إفريقيا – إن كانت ما تزال ممكنة – تمرّ عبر مراجعة شجاعة للمقاربات، والاقتناع بأن التاريخ وحده لا يكفي لصناعة النفوذ… بل لا بد من قراءة اللحظة، والانخراط فيها، بدل الهروب منها