الحالة الدينية في زمن كورونا: عدم تفاعل الناس مع أذان الصلاة

بقلم: ذ. حسن حلحول/ محام عضو المجلس بهيئة الرباط

لم تذر جائحة كورونا ولم تدع أي مجال في الحياة البشرية إلا واقتحمته حتى بعض المجالات التي اعتقد البعض أنه من المستحيل أن تمسها تداعياتها، وهو المجال الديني الذي بدوره أصيب بآثارها، حيث عرف الانسان المسلم ارتباكا بمجرد ما ان تم إعلان كل الدول الإسلامية تقريبا رغم اختلافاتهم، عن إجراءات استثنائية لم يعهدها أي مسلم، ولم يتصورها، ولم يسمع بها أو رآها في حياته، وذلك عندما تقرر إغلاق المساجد، ومنع صلاة الجمعات والجماعات، لقد أحدثت الإجراءات الصحية التي فرضتها ظروف جائحة كورونا إلى إغلاق المساجد ومنع الصلاة فيها، تحولا كبيرا في سلوك المغاربة، إلى درجة بات جميع الناس مصابين بالذهول، كيف لا؟ وهم يسمعون الأذان دون أن تكون لهم القدرة أو امكانيات الاقتراب من المسجد لأداء الصلاة فيه، فأنتج هذا الوضع الجديد ردة فعل شبه عدوانية، من طرف اغلب المواطنين، فقد هاجم كثير من الوعاظ والمرشدين الدنيين مستندين ومستعينين بعامة الناس الذين يتصورون أن الصلاة في المساجد والدعاء فيه جماعة بخشوع وتضرع، هي الوسيلة والطريقة الأكثر نجاعة ونجاحا لرفع هذا الوباء، لأن الوباء هو غضب وانذار أنزله الله وسلطه على عباده ليراجعوا أنفسهم وأمورهم، ويرجعوا إلى طريقه المستقيم، ويكفوا عن ارتكاب المعاصي، التي كثرت في هذا العصر، فخرج الناس متظاهرين في كثير من المدن ليلا مهللين مكبرين، وفي اعتقادهم، بأن هذا الوباء مسلط عليهم من الله سبحانه وتعالى، فإن رفعه لا يتسنى ولا يتم إلا بالرجوع اليه بالدعاء والصلاة داخل المساجد لا خارج المساجد ، لا مفر من هذا القدر الذي قدره الله علينا، وهنا أستحضر واقعة تاريخية وقعت بين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح، روى البخاري في صحيحه ان عمر بن الخطاب ” حين وقع الوباء بأرض الشام خرج الخليفة، وعندما وصل إلى أطرافها إلتقى ابا عبيدة بن الجراح فأخبره أن الوباء قد وقع بأرض الشام “وكان قرار عمر عدم الدخول إليها فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أفرار من قدر الله؟ فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة بن الجراح ” نعم” نفر من قدر الله إلى قدر الله. يظهر ان عمر فرّ خوفا من الوباء خلاف ابي عبيدة بن الجراح الذي اعتبره قدرا لا مفر منه إلى جانب كافة الناس، إن ما يستفاد من هذه الواقعة هو ان هناك رأيين الأول: وهو ان عمر بن الخطاب استعمل العقل، فقرر الفرار من الوباء حتى لا يصاب به ويلقى حتفه فيه، مستشهدا بنص القرآن “وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ” ( سورة البقرة الآية 195) وهو في ذلك على صواب، لا يمكن أن يلام على ذلك الثاني: وهو أبو عبيدة بن الجراح استعمل الايمان، فأرجع أمره إلى الله، فقرر أن لا يترك الناس ، وأن يواجه الوباء بالايمان، وبما أوتي من الصبر مستشهدا بنص القرآن : “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا ، وعلى الله فليتوكل المومنون” (سورة التوبة الآية 51) وذلك عندما قرر ان يدخل إلى المدينة المصابة بالوباء لأنه كان قائد الناس، فلم يتركهم لوحدهم يموتون، فكتب له ان يموت بسبب الطاعون الذي ضرب البلاد، وهو أيضا بهذا القرار كان على صواب، ولا يلام على ذلك فمات شهيدا وأمام هذا الواقع ما هي الآية الواجبة التطبيق الأولى أم الثانية؟ نرى أن كلاهما على صواب في اختيار الآية التي، يأخذ منها كمرجع، في تدبير الحياة كل واحد منهما يرجح اجتهاده ، ويعتبره هو الصواب. أن قرار إغلاق المساجد هو يدخل ضمن التحدي والتصدي لإرادة الله الذي أرادها ان تكون عليه البشرية على هذه الحالة، حتى ترجع الى الله، وهذا النقاش والجدال الذي خاض فيه المسلمون، ليس مقتصرا عليهم فحسب، بل خاض فيه رجال الدين المسحيون وكذلك حاخامات اليهود اعتبروا منعهم، من القيام بالطقوس الدينية بشكل جماعي أمر غير مقبول…

1جدلية الصلاة والمسجد:
إن جدلية ترابط الصلاة بالمسجد نقصد بها، العلاقة الوطيدة بينهما، فلا يمكن الحديث عن المسجد دون ان يتبادر إلى الذهن الصلاة، فهي كالروح بالنسبة للجسد ، فلا يمكن ان نتصور الجسد بدون روح، ولا الروح بدون جسد، فلا يمكن تصور المسجد بدون ان تؤدى فيه الصلاة، ولا تكون الصلاة كاملة إلا في داخل المسجد في الجماعات، خصوصا الجزاء مضاعف فيه، باعتبار أن الانسان دائما يبحث عن الكمال، ولا يتأتى كمال الصلاة إلا في المسجد، إن الناس تتجه الى المسجد تاركة كل ما يشغلهم بحثا عن الله، ولا يجد المسلم الطمأنينة والراحة والروح الا بين يدي الله في الصلاة هنا يحس الانسان أنه قريب الى الله بتواجده في بيت الله، فسمي ببيت الله لما فيه من راحة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبلال “أرحنا بها يا بلال” يعني بها ان الرسول يستحضر لحظة المعاينة والمشاهدة لله عز وجل، ولهذا عندما قلت إن المسجد هو المكان الذي يبحث فيه الانسان عن الله بالصلاة، استنادا إلى هذا الحديث العظيم الذي استأنس فيه الرسول برب العالمين عندما فرضت الصلاة. إن سيكولوجية الصلاة في المسجد لها تأثير كبير على سلوك الناس، متمثلة في امتصاص غضبهم، وتريح النفس من صخب الحياة، وتعيد لهم تجديد الطاقة الذاتية المتجددة، ويلاحظ عندما منع الناس عن أداء الصلاة الجماعية داخل المسجد ، أفرز نوعا من التمظهرات الغريبة على سلوك الناس نتج عنها الانزعاج التلقائي، والاضطرابات النفسية، والتشنجات الاجتماعية، سيما على الشريحة الاجتماعية المتقدمة في العمر، وبالجملة إن اقفال المساجد بسبب وباء كفيد 19 خلق في حياة الإنسان فراغا روحيا كبير جدا. الحق أن الصلاة بصفة عامة وخاصة الجماعة منها تعتبرالعمود الفقري في العبادات، وركن أساسي من أركان الإسلام، فإذا كانت الأركان الاخرى رغم أهميتها، فإن الصلاة لها خاصية مميزة عن باقي الأركان وهي لصيقة بالإنسان، والإنسان لصيق بالله، لا يفارق ذكره كل يوم بل كل أوقات اليوم فالفجر جاء في وقت فريد إذ تؤدى الصلاة والظلام على وشك الانجلاء، ثم يعقبه الظهر فالعصر والمغرب وفي الاخير العشاء، والفارق الزمني بين صلاة وصلاة في أوقات معدودة تجعل الانسان مرتبطا بالمسجد كلما سمع الآذان. أما الأركان الأخرى لا تربط الإنسان إلى الله بالشكل الذي يكون عليه في الصلاة، فالشهادة لا تكون إلا مرة في العمر أما الزكاة والصيام والحج فهي عبادات موسمية تنجلي بمجرد انتهاء موسمها، فالزكاة معطلة على أغلب شريحة المجتمع لفقرها، إذ لا يشعر المرء بهذه الشعيرة، والصيام ايام معدودة يكون فيه الإيمان بالله جد عال، والحج مرة في العمر من استطاع إليه سبيلا. ولما أقفلت كورونا المساجد وأبعدت الناس عنها، شعروا انهم بإبتعادهم عنها، كل يوم يمر وينصرف، يفقدون روحانيات الصلاة وحلاوتها الربانية، وكذلك يفقدون ارتباطهم الوطيد بالمسجد وبآذانه الذي ينادي لأداءها في وقتها.
2 – فتور واضمحلال الاهتمام بالصلاة في زمن كورونا:
لقد عرف الفقهاء الصلاة لغة: هي الدعاء، الاصطلاحا: عبادة الله عز وجل ضمن أقوال وأفعال محددة تفتتح بالتكبير وتنتهي بالتسليم، إن الرمزية الروحانية للمساجد بالنسبة للمسلمين، كمعبد تؤدى فيه الصلاة عامة والجمعة خاصة، من المسلمات التي لا غنى عنها، والصلاة بمثابة الروح الذي تخلق الحياة داخل المسجد، والمسجد بمثابة الجسم الذي يحتوي الصلاة ويجعل لها طعم وحلاوة، الصلاة في المسجد كالملح في الطعام، من حيث خلق الإيمان القوي بالله ، فهي عبارة عن انفعالات مرتبطة بالاحساس والشعور الباطني للمسلم. فتكون الصلاة فاعلة في بعض الأمور، ومنفعلة في بعض امور اخرى، أعني بذلك تكون فاعلة بالضرورة داخل المساجد وفي يوم الجمعة، بوصفها تملك مقومات الكمال اكثر، وتكون منفعلة بالضرورة عند أدائها، خارج المسجد بوصفها تملك مقومات غير كاملة وغير تامة بالمقارنة مع الصلاة الفاعلة، فالصلاة المنفعلة أقل كمالا وثوابا من الأولى. إن السمة الأساسية الذي ميز زمن كورونا، عن الزمن الذي ذي قبل، هو إقفال المساجد ومنع صلاة الجماعات والجمعات، وهذا القرار الذي اتخذته حكومات الدول الإسلامية لمنع التجمعات البشرية، كوقاية لمواجهة الوباء.
إن من بين تدعيات الوباء على حالة الدين في المجتمع، هو أن الناس بعد طول المدة التي تتعدى 7 اشهر، بدأوا يتعودون الانقطاع عن المسجد والابتعاد عنه، كما استطاع الوباء ان يفك الارتباط الوثيق بين المسجد والصلاة، ويظهر ذلك على حالة الناس، فصار الناس يسمعون الأذان لأداء الصلاة والإعلان عنها، لا يؤثر فيهم وهم جالسون في المقاهي أو يقضون اغراضهم و حوائجهم، فالأمر قبل كورونا عكس ماهي عليه حالة الناس تجاه الصلاة، فكنا نلاحظ السرور على ملامحهم، يتركون كل ما يشغلهم وينسحبون من المقاهي ويتجهون هرولة الي بيت الله بشغف واهتمام لأداء الشعيرة، فكانت الجماعة داخل المسجد وتلاحم الأكتاف، تخلق نوعا من الالفة، والتآلف والاخوة بين المصلين. وبعد أن تم فتح عدد قليل من المساجد في الأحياء، ظهر من خلال اداء صلاة الجماعة في المسجد والناس مبتعدون عن بعضهم البعض الذي يجعلك تحس بالفتور، بدل ذلك الدفء والتلاحم الذي يخلق إحساسا عجيبا في نفسية المصلين والذي بات يفتقد، خصوصا وأن الناس يسمعون الآذان ولا ينفعلون معه، ولا يؤثر فيهم لعدم أداء صلاة الجماعة في المساجد، وصار اكثر الناس يجمعونها ويؤدونها ليلا، هذا كله خلق نوعا من الفتور والتراخي في الالتزام بأوقات الصلاة بمجرد سماع الأذان، حتى أصبح سماع الأذان شيء عادي، كما يسمع المسيحيون اجراس الكنيسة، لا ينفعلون ولا يتفاعلون معها، أو ليس الحالة التي نعيشها على المستوى الديني، أصبحت ظاهرة غريبة سيكون لها عواقب غير محسوبة وغير محسومة على السلوك الفردي؟
النزعة العقلية والتعامل مع الوباء:
لقد سبق أن اشارنا لحديث رواه البخاري حول واقعة فرار عمر بن الخطاب من الدخول إلى الشام التي أصيبت بالطاعون، فقلنا ان عمر استعمل العقل ورفض الدخول إلى المدينة، فارا من الطاعون، ولقد عاب عليه عبيدة بن الجراح فراره، وهو نفسه يتكرر في زمن كوفيد 19، وذلك عندما اتخذت الحكومات الإسلامية قرارها بإغلاق المساجد ومنع أداء مناسك الحج، خوفا وفرارا من هذا الوباء للحفاظ على حياة الناس، إن هذا القرار أعتمدته بناءا على التقارير التي صدرت عن منظمة الصحة العالمية، معتمدة على نتائج العلم، مستبعدة استبعادا تاما، المعتقدات الدينية التي يؤمن بها أغلب شعوب العالم في إيجاد الحلول للوباء. إذن يرى العقلانيون ان العلم هو الوحيد الكفيل بالقضاء على هذا الوباء، ولا شيء غيره.
النزعة الإيمانية والتعامل مع الوباء:
النزعة الإيمانية هي التي ترجع الظواهر الطبيعية والوبائية إلى قضاء الله وقدره الذي لا مفر منه، إن عبيدة بن الجراح قبل بقضاء الله وقرر أن يبقى في المدينة المصابة بالطاعون، وبقي ضمن العباد يصلي ويدعو الله ويناجي ربه ويتضرع اليه، لرفع الوباء عنهم. و دعاة فتح المساجد في الوقت الذي تفشى الوباء والحجر الصحي، اعتبروا منع الناس من أداء الصلاة في المساجد، هو عمل لا يرضي الله، وأن غضبه سيتسع ولن يرفع هذا الوباء إلا بالرجوع إلى بيوت الله والدعاء فيها، لما يلف الدعاء الجماعي من خشوع وإيمان صادق، ويقاس على ذلك عندما تصاب الأمة، بالجفاف فإنها تلجأ الى اداء صلاة الاستسقاء ليغيث الناس بالمطر النافع ويرفع عنهم الجفاف. كذلك الصلاة والدعاء في المساجد من أجل رفع الوباء. إذن يرى الإيمانيون انه مهما حاول العلماء بعملهم، لإيجاد الحلول للقضاء عن الوباء، فلن يتأتى لهم ذلك إلا إذا استندوا واعتمدوا على التوفيق من الله، بالدعاء والصلاة في المساجد. والسؤال الذي يطرح نفسه هل إذا استمرت الحالة على ماهي عليها، خصوصا وأن منظمة الصحة العالمية تتنبأ، بأن الحياة الطبيعية لن تعود الى ما كانت عليها إلا في سنة 2022، هل سيؤدي إلى الابتعاد عن الدين والاهتمام بالعلم؟ وهل أن الدين سيعرف تراجعا امام العلم والمعرفة الجديدة حسب تنبؤات ماركس ودوركهايم وفيورباخ وانجلز وغيرهم؟

اترك رد