الخطاب الملكي: لا تنمية حقيقية وشاملة بدون تغيير العقليات

بقلم: لحسن الجيت

الخطاب الذي ألقاه جلالة الملك أمام البرلمان حمل رسائل قوية لمن كان داخل المبنى، وكذلك لمن هو خارجه.
تميّز الخطاب بلغة هادئة، وإن خلا في ظاهره من نبرات التهديد والوعيد، كما كان ينتظر العديد من ساسة المعارضة وطيف عريض من الشباب، إلا أنه في مضمونه كان أشدّ قوة وصلابة، يحمل نظرة ثاقبة في اتجاه بناء المستقبل على خطى ثابتة، بعيدًا عن الأهواء والانفعالات.

إنه ملك، فهو فوق الجميع، وليس طرفًا منحازًا لهذا أو ذاك، بل يقف على مسافة واحدة من الجميع.
لقد ذهب جلالة الملك إلى أبعد من كل ما يعج به المشهد السياسي، سواء تعلق الأمر بانفعالات الشارع الذي أظهر اندفاعًا كبيرًا وحماسًا قويًا من خلال الاستعجال بتحقيق مطالبه – التي لا جدال في وجاهتها ومشروعيتها – أو تعلق الأمر بالحسابات السياسية لبعض الأحزاب المعارضة التي أبانت عن انشغالها بإسقاط الحكومة أكثر من أي شيء آخر، وكأن إسقاط تلك الحكومة هو في نظرها الإصلاح الذي ينتظره عموم المغاربة.

ولأن الملك هو الضامن والساهر وصمام الأمان، فقد نأى بنفسه – ومن حقه – عن السقوط في صخب الغوغائية وحُمّى الانفعالات، وقفز فوق كل ذلك بعقلانية رصينة لخدمة المطالب الحقيقية، وتحقيق انتظارات الشعب المغربي بكل ثقة وثبات، بعيدًا عن الهرولة أو أية محاولة التفافية بنية تجنب إكراهات المرحلة الحساسة.

صادق جلالة الملك شعبه، مثلما صادق نفسه، بأن التغيير الحقيقي لا يأتي بعصا سحرية.
وعلى الشباب أن يتحلّوا بدرجة عالية من الفهم اليقيني والاستيعاب الجيد لمضامين الخطاب الملكي، وإن بدا لهم أنه ليس الخطاب الذي كانوا ينتظرونه، فإنهم قد أخلفوا الموعد مع الحقيقة والحكمة والقراءة الجيدة للمستقبل الذي يحلمون به. وكما يقال: في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة.

كلمة السر في الخطاب الملكي كانت حين كشف جلالته عن واحدة من الأعطاب الخطيرة التي تعشش في الذاكرة المغربية، والمتمثلة في الدعوة إلى تغيير العقليات، معتبرًا ذلك أساسًا وشرطًا لأي إصلاح أو تنمية يراد تحقيقها على الصعيدين الوطني والمحلي.

فما دعا إليه جلالة الملك ليس عبثًا ولا ترفًا فكريًا، بل هو واقع مرير ومحبط لكل السياسات التي ترنو إلى الارتقاء بالبلاد لكنها لا تبلغ المبتغى بسبب العقليات السائدة.
وهذه العقليات لا يمكن اختزالها في الحكومة الحالية، بل هي آفة لازمت كل الحكومات منذ الاستقلال إلى اليوم، وانتشرت بين المسؤولين في الجهات والمحليات، كما تسللت إلى الأحزاب والنقابات وجمعيات المجتمع المدني. فالجميع ينهب، وكلٌّ ينهب على قدر استطاعته.

تلك هي العقلية التي يراد تغييرها: عقلية متوارثة جيلًا بعد جيل، مبنية على ثقافة الغش، تتجلى في الصراع على كرسي المسؤولية، وفي سعي الجالس عليه إلى حماية نفسه من المكائد بكل الوسائل، المشروعة وغير المشروعة، والمهم أن يحتفظ بالكرسي.
أما المتربصون به فيسعون إلى إسقاطه بالطريقة نفسها.
ويكفي مثالًا على هذه العقلية الحملة التي يشنها عبد الإله بنكيران على عزيز أخنوش، فهي ليست في خدمة المصلحة العامة، وحين يدعو إلى مقاطعة محطات البنزين العائدة لأخنوش، فإن استفادة المغاربة من ذلك تبقى منعدمة.

ولا تسلم من هذه العقلية كذلك مستويات المسؤولية الجهوية والمحلية، إذ تنتشر الرشوة مقابل أبسط الخدمات العمومية، ويُساء التصرف في المال العام كما لو كان إرثًا عائليًا، فيُمنح فتاته للمؤيدين ويُحرم المعارضون منه.

بين الصورة البارزة والعنوان

ونحن على أعتاب الاستحقاقات الانتخابية، نرى بعض رؤساء المجالس المحلية يطلقون في الأشهر الأخيرة من ولايتهم مشاريع كانت مجمّدة لأغراض انتخابية صرفة، يوجهونها نحو دوائر ترشحهم ويحرمون خصومهم منها. إنها ببساطة عقلية الإقصاء والحرمان.

أما الأحزاب السياسية، كما أشار الخطاب الملكي، فهي مطالبة بالقيام بمهمتها الدستورية في تأطير الشباب وتأهيلهم ليكونوا رجال الغد. لكن معظم قادتها غارقون في عقلية الزبونية والإقصاء، وفي البحث عن أصحاب “الشكارة” لضمان المقاعد. من يدفع اليوم أوراقًا نقدية لكل ناخب، إنما يسعى غدًا إلى استرجاع أضعاف ما صرفه، والمسؤولية تقع على الراشي كما على المرتشي.
هذه هي العقلية التي تحدث عنها جلالة الملك، وهذا هو الإصلاح الجوهري: من هنا يبدأ الإصلاح، وإليه ينتهي.

لكن لا ينبغي التوقف عند التشخيص، وإن كان ضروريًا لفهم الواقع، بل الأهم هو القضاء على هذه العقلية المفسدة.
والجواب لا يختزل في إجراءات آنية، فالعملية معقدة، ويكمن تعقيدها في تغلغل أعداء الإصلاح داخل الإدارة، وخاصة في القطاعات الحيوية كالتعليم.
فإصلاح المنظومة التربوية والتعليمية ضرورة لبناء شخصية الإنسان المتوازن، والخطر الأكبر أن يتعلم التلميذ ثقافة الغش إلى أن يراها حقًا من حقوقه.

وعلى الأسرة والإعلام واجب وطني في محاربة هذه العقلية عبر التوعية وتنشئة الأجيال على قيم المواطنة، وتخصيص برامج ثقافية تُنمّي مشاعر الانتماء والهوية، وتحصّن البلاد من مؤامرات بعض السياسيين الذين يشتغلون على أجندات معادية.

أما في المدى المنظور، فقد تضمن الخطاب الملكي إشارات قوية لا تخلو من إجراءات رادعة وحازمة، ختمها جلالة الملك بالآية الكريمة: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره”.

فالاستعانة بقول الله تعالى هي خير ما يخاطَب به المسؤولون الذين يفترض فيهم الإيمان، إذ تحضر لغة الدين هنا كمرجع لقاعدة سياسية أساسية: ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومن أنذر فقد أعذر.

الخطاب، في مجمله، دعوة صريحة إلى الإصلاح الحقيقي.
ومن يريد هذا الإصلاح فعليه أن ينخرط في الحوار الذي دعت إليه الحكومة، فالحوار سبيل للأخذ والعطاء، ولا يمكن أن ينتهي إلا بنتائج مرضية.

ويبقى السؤال: من يمنع شبابنا من التجاوب مع هذا الحوار؟
هل هي قوى خفية ترفض الظهور حتى لا تنكشف أمام الرأي العام؟
قد يكون خلف الستار من يسعى إلى زرع الفتنة في هذا البلد الأمين، أولئك الذين ظلوا يتربصون به منذ أمد بعيد، غير مدركين أن المغرب محصّن بثوابته وملكه وشعبه.

اترك رد