بين دروب المدينة العتيقة للدار البيضاء، يبث مشروع طموح، مدعم من طرف المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، حياة جديدة في الحرف اليدوية والشباب والتقاليد.
ومن خلال إحداث فضاءات “المكان” المخصص للترويج لمنتجات الصناعة التقليدية، و”الموهوب” المتخصص في تكوين الحرفيين الشباب، تعمل جمعية (ماروك إمباكت) وشركاؤها على إحياء معرفة الأجداد، مع التشجيع على إدماج الحرفيين الشباب.
داخل رياضٍ ساحر يفيض بعبق التاريخ، وقت الظهيرة، يتجمع مغاربة وزملاؤهم الأجانب حول طبق من الطين (قصعة) لتناول كسكس يوم الجمعة، الذي أشرفوا على تحضيره بأنفسهم، وتقاسم لحظة حميمة وفريدة من نوعها، وكأنهم يعيشون فصلا من حكايات “ألف ليلة وليلة”، حيث كل ركن يروي سيرة من تاريخ وحضارة المملكة.
وتتناغم في هذا المكان وحوله أصالة الصناعة التقليدية، وعراقة التقاليد الضاربة جذورها في التاريخ، ونبض الابتكار المتجدد، في تجل راق لروح مغرب يراهن على شبابه. هنا، في “المكان”، يتحقق حلم “بيضاوي”، بفضل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، لوصل الحاضر بالماضي في فضاء يعج إبداعا.
ينتصب هذا الفضاء شامخا خلف ساحة أحمد البيضاوي، المعروفة بـ “ساحة بيضاوة”، وتتزين شرفته بسعف “الرافية”، لتكشف، من النظرة الأولى، عن مكان استثنائي.
وبمجرد تجاوز عتبة بابه، ينكشف عالم من الأصالة والتجدد، حيث يحتضن “الفندق”، المُرمم حديثا، روح المدينة العتيقة للدار البيضاء، ويعيد إحياء ذاكرتها بلمسات شبابية تجمع بين أصالة التراث وإبداع يتجاوز الحدود. يستقبلك هذا الفضاء بالمنتجات المجالية، والخزف، والفخار، والحدادة، والنحاس، والمنتجات الجلدية وقفطان “زماني”..، تستضيف زبائن “المكان” المتطلعين لعيش تجربة استثنائية في قلب فضاء يتجاوز حدود الزمن.
يقول أمين، وهو أحد أعضاء فريق مهني يحتفي ببداية مهمة جديدة داخل هذا الفضاء، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، “لا يمكننا العثور على مكان أفضل من هذا الفضاء الساحر لقضاء وقت ما بعد العمل”.
وأضاف، والفخر يشع من عينيه، “هي فرصة سانحة لنُعرّف زملاءنا الأجانب على عظمة وغنى تراثنا المادي واللامادي، مؤكدا أن “هذا الفضاء يقدم خدمة مبتكرة في إطار أصيل يجسد روح الضيافة المغربية”.
في هذا الفضاء، لا تقتصر التجربة على المشاهدة، بل تتعداها إلى المشاركة الفعلية في صناعة المنتوج. بالنسبة لأمين ورفاقه، كانت التجربة في مجال الطهي، فقد كان للورشة، التي أشرفت عليها تعاونية متخصصة في هذا المجال، والتي اختتمت بحفل لموسيقى “كناوة”، تأثير عميق في نفوس المشاركين.
تعد “كيتشن جنيوس” جزء من منظومة متكاملة تضم عشر تعاونيات ملتزمة، تعمل على تثمين التراث المحلي وتطوير مسارات سياحية جديدة داخل المدينة العتيقة.
وتعرض كل تعاونية ضمن هذا الفضاء قطعا فنية فريدة تمثل مختلف أصناف الصناعة التقليدية، داخل قاعات تحيط بفناء مطعم يبرز براعة الحرفيين المغاربة، من الزليج الملون والنقوش الجبسية، إلى “تدلاكت”، والخشب المنحوت والسجاد التقليدي. وتتكفل “جينيوس مانجمنت” بإدارة هذا المشروع، مع الحرص على تطوير الخدمات وتقديم تجربة متجددة تجمع بين التراث والابتكار.
بازار وورشات عمل مصممة بعناية وفق فن “المعلم”، في توازن دقيق بين التقاليد والابتكار… هو مشروع طموح يعد ثمرة شراكة منتجة بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني.
ويتعلق الأمر بمبادرة “جينيوس مدينة”، التي تشرف عليها جمعية “ماروك إمباكت”، والتي حظيت بدعم قدره 4 ملايين درهم من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. وقد تم تنزيل المشروع على أرض الواقع سنة 2023، ليتحول إلى قصة نجاح مبهرة في مجال الاقتصاد الاجتماعي.
قبل خوضهم هذه المغامرة، تلقى هؤلاء الحرفيون الشباب تكوينا شاملا، كما تم تزويدهم بورشات خاصة ليتحملوا المسؤولية، ويبدعوا، وينقلوا خبراتهم.
غير بعيد عن المكان، وفي حي الملاح تحديدا، بدأت أولى خطوات هذه التجربة، إذ أُطلق مشروع “الموهوب” (Muhub) ضمن نفس المبادرة. ومنذ ذلك الوقت، تخرج منه أكثر من 300 شاب، تمكن معظمهم من عرض منتجاتهم حيث يتعاونون بشكل وثيق مع فضاء “المكان”.
من صناعة الخزف إلى مختبر تصنيع متقدم (Fab Lab)، مرورا بصناعة المجوهرات والخياطة، يقدم مركز التكوين آفاقا رحبة لشباب المدينة العتيقة.
في هذا الصدد، يقول الشاب أيوب نبيه، المسؤول عن (Fab Lab)، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، “حينما كنت في مفترق طرق، كان (الموهوب) بمثابة بوصلة لي. من خلاله، تمكنت من تطوير مهارات جديدة سمحت لي بأن أصبح منتجا”.
وتابع قائلا “تلقيت تكوينا متكاملا، جمع بين التقنية والتطوير الشخصي وتعلم اللغات. كما قدم لي المركز ورشة العمل هاته المجهزة بعدة آلات أتاحت لي الفرصة لتطوير عملي والتعاون مع زملائي عند الضرورة”.
وليس الشباب وحدهم من نالوا حظهم في هذا الفضاء، فهناك كبار “المعلمين” أيضا، منهم “المعلم” عبد المجيد شتوك، رائد صناعة “الرافية”، الذي عبّر عن سعادته بالعمل في هذا الإطار النموذجي.
وأوضح، في هذا السياق، أنه “لم يسبق لي أن اشتغلت في ظروف بهذا القدر من التحفيز والدعم”، مشيرا إلى أن هذا الفضاء يُعتبر أيضا حلقة وصل بين “المعلمين” الحرفيين والشباب، مما يسهل نقل مهارات الحرفية التقليدية بسلاسة.
ويستقطب هذا الفضاء أيضا طلبة أكاديمية الفنون التقليدية، التابعة لمؤسسة مسجد الحسن الثاني، سواء من أجل التداريب، أو لصقل المهارات الشخصية. كما أنه مفتوح في وجه كل راغب في التعرف عن قرب على عبقرية “المعلم” المغربي، ما جعله قبلة للحرفيين والمهتمين بالتراث.
وفي هذا الإطار، قال عبد الرزاق رشدي، المسؤول عن (الموهوب)، “لقد تحقق حلم ظنناه يوما مستحيلا. فمن خلال هذا المشروع، تعلمنا كيف نبدع، وكيف نبادر، وكيف نبني”.
وأضاف أن “المكان” و”الموهوب” يواصلان السير، جنبا إلى جنب، ويمنحان الشباب والنساء والحرفيين فرصة الانبعاث من جديد، وإعادة تشكيل ملامح تراث المدينة العتيقة المادي واللامادي، مشددا على أن الحلم متواصل بروح من الإصرار والأمل.
واختتم رشدي حديثه بالتأكيد على أنه “بفضل الدعم، والمواكبة، والتحفيز، أصبحنا نموذجاً للابتكار الاجتماعي، ومصدر إلهام للأجيال المقبلة”.
بدعم من وزارات السياحة والصناعة التقليدية والداخلية، والوكالة الحضرية، ترتبط التعاونيات أيضا بشبكة دولية مرموقة، تشمل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) وعددًا من دور الأزياء الفاخرة. وبفضل نجاحها الكبير، تعتزم “جينيوس مدينة”، توسيع نموذجها ليشمل مدن أخرى بالمملكة. أما في الدار البيضاء، فقد تم إنجاز المهمة.