الزّمن كفيل بإيقاد المشاعر وقتلها؟
بقلم: رشيد مصباح (فوزي)
بعد عودتنا من المقبرة وتقديم العزاء لأهل الميّت، وبينما نحن خلف السّائق الذي نال نصيبه من السبّ والشتم بسبب إفراطه في السّرعة… لفت انتباهي غياب أحد أبناء المرحوم كان قد جاء معنا، فقيل لي إنّ الصّبيّ برفقة شخص ما لا أعرفه. وتساءل آخر عن حال الولد، فتدخّل آخر من هناك مستغربا حالة بنت المرحوم الصغيرة التي قيل إنّها لم تتأثّر مطلقا بموت والدها؛ والمسكينة لا تزال في سن الحداثة؟ا
سؤالي كان بمثابة مفتاح لباب نقاش طويل.. لم ينته إلّـا بتوقّف العربة عند آخر محطّة. وفي مثل هذه المناسبات، يجد الإنسان نفسه أحيانا مجبرا على الخوض مع الخائضين، يجاري هذا ويداري ذاك، لكنّه يندم في الأخير على مثل هذا النوع من النّقاش العقيم. والنّاس اليوم يحرضّونك على الكلام، لا محبّة فيك ولا رغبة في إثراء النّقاش، ولا لمعرفة رأيك في الموضوع.. ولكن لحاجة في نفوسهم الملوّثة المريضة.
وجدتُ نفسي أتحدّث إلى مراهقين وأطفال، وأشخاص من مختلف الأعمار.. عن تجربتي مع المشاعر؟ا أخوض مع الخائضين، وفي الأخذ و الردّ على أسئلة منها البريئة ومنها المغرضة والمفتعلة، وقلتُ لصبيّ آخر كان يجلس بعيدا: إنّ الزّمن له فعلته وهو كفيل بإذكاء المشاعر و إيقادها، وإنّ المشاعر تجيش و تكبر مع الانسان. مستشهدا بتجربتي الشّخصيّة مع أعزّ النّاس لديّ؛ لكن الواقع يثبت العكس، بينما في الواقع، وفي حقيقة الأمر، إن الزّمن كفيل بإضعاف المشاعر، بل وقتلها. بفعل برودة النّسيان، وفي كثير من الأحيان.
حينما يريد الله أن يفتح على عبدٍ من عباده، يلقي بإلهامه عليه فتأتيه المشاعر والمواهب من كل جانب؛ تحضرني هنا لطيفة من اللّطائف: (( مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه ، فشكا إلى الله تعالى ، فدله على عشب، فأكل منه فشفي وعوفي من مرضه، ثم عاوده الألم فأكل من العشبة ذاتها فازداد مرضه ، فسأل ربّه؟ فجاءه الردّ من الله: إنّه في المرة الأولى توكّل عليه لاعتقاده أن الشفاء من الله فشفاه الله، ولم يشفه العشب)).
نعتقد جازمين أننا نعرف كل شيء في هذه الحياة، ونفهم في كل شيء بفضل تجاربنا الشخصيّة.. لكن في النهاية، وعند أوّل تجربة من تجارب الحياة، ندرك أنّنا نجهل أكثر وأكبر ممّا نعرف نعتقد؛ وصدق (أبو نوّاس) حين قال:
فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً
حَفِظتَ شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ
لا تَحظُرِ العَفوَ إِن كُنتَ اِمرَأً حَرِجاً
فَإِنَّ حَظرَكَهُ في الدينِ إِزراءُ