المغرب بين العهد القديم والعهد الجديد

بقلم: فؤاد هراجة

قد نعتقد لأول وهلة أننا إزاء معالجة موضوع في علم الأديان (Theology) باعتبار أن العهد القديم في لغة أهل التخصص يقصد به الجزء الأول والأكبر من الكتاب المقدس الذي يضم كل الكتب المُنزَّلة على اليهود بما في ذلك التوراة، في حين أن العهد الجديد يقصد به الجزء الثاني والأصغر من الكتاب المقدس الذي يحتوي على الإنجيل. غير أننا في هذا الموضع بصدد النظر والمقارنة بين عهدين سياسين عرفهما تاريخ المغرب الحديث والمعاصر؛ عهد قديم سُمِّيَ بسنوات الرصاص، وعهد جديد دخل عقده الثالث وأخذت معالمه الكبرى تتضح وتنجلي للعادي والبادي، ليفرز بدوره اسما يعكس أسلوبه الاستبدادي. وفي هذا السياق قد يقول قائل ولِمَ النظر في هذين العهدين ما دام أنهما يخضعان لنفس النظام المخزني الذي رسم طريقهما؟ والجواب، أنه ثمة خيط رفيع يميز العهد القديم عن العهد الجديد وجب تَبَصُّرُهُ واستيعابه واستحضاره، ويتمثل في تعامل كل من العهدين مع المعارضة. صحيح أن القمع مهما تغيرت ألوانه فهو واحد، كما هي الحرب في كل أحوالها مدمرة، لكن ثمة حرب تلتزم بأخلاقياتها ما دام غرضها يتحدد بالأساس في تحقيق الردع المطلوب ثم تتوقف الحرب عند تحقُّقِه، في المقابل هناك حرب تتجاوز الردع إلى إذلال وتحقير وتشويه المُرتَدَع، وهو مثال ينطبق تمام التطابق على العهد السياسي القديم والعهد السياسي الجديد في المغرب، حيث مارس الأول كل ألوان التنكيل والاختطاف والتعذيب و الحبس حتى بدون محاكمات…، فكان تارة يعترف بطبيعة الصراع على أنه صراع مع معارضة سياسية وبوجه مكشوف كما حصل مع اعتقال المرحوم عبد الرحيم بوعبيد وحبس وحصار عبد السلام ياسين رحمه الله لسنوات ، وتارة أخرى كان يجنح للاعتقال السري وإنكار وقائعه كما حصل في تازمامارت، لكن دون أن يلجأ إلى تشويه المعارضين في شرفهم وأعراضهم وإلحاق الأذى المادي و المعنوي بذويهم والتنظيمات التي ينتمون إليها، بل الأكثر من ذلك نسجل أن العهد القديم قد سكت عن الكثير من القضايا الأخلاقية الشائكة كما ذكرها أحمد البخارى في كتابه المشهور سيء الذكر. في حين أن العهد السياسي الجديد اختار نهجا وأسلوبا مغايرا مع المعارضين بحيث يلجأ بطريقة ممنهجة إلى اعتقال معارضيه بنفس التهمة الأخلاقية المتمثلة في ”الجنس غير المشروع“، حتى يخفي طبيعة الصراع ويلبسه لبوسا جنائيا يُستَعملُ فيه القضاء كوسيلة لتصفية الحسابات السياسية، وتُبْعَثُ من خلاله رسائل لكل معارض أيا كان موقعه بأنك في حال سراح مؤقت وأن مكانك في السجن مُعَدٌّ وأن تهمتك جاهزة بملفها وشهودها وضحاياها. ولئن كان الاعتقال في العهد القديم قد رفع من شأن المعتقلين ومنحهم مشروعية نضالية تاريخية، وأحيا بهم روح النضال في الجماهير وجعل منهم رموزا سياسين يشعر كل مواطن غيور أنهم نابوا عنه في أداء ضريبة النضال، فإن الاعتقال السياسي في العهد الجديد استفاد من الدرس وتبرم من الصراع المباشر واختار اغتيال معارضيه الإعلاميين والسياسيين بتهم أخلاقية ابتدع لها تأويلات فجة من خلال قانون الاتجار في البشر الذي تم تشريعه دوليا بالأساس للحد من هجرة العمالة وهجرة الذعارة وتهجير الأطفال…، هذا القانون الذي تم تكييفه في المغرب ليعوِّضَ سابقه قانون ”كل ما من شأنه“ الذي حوكم به معارضون كُثر. لقد أصبح المعارضون متهمون بالجنس غير المشروع بالقوة، إذ يكفي أن يتهمك شخص على صفحته في الفيسبوك ليتم تفعيل مسطرة الاعتقال في حقك لا لشيء إلا لكونك مارست حرية التعبير وقلت ما يغضب الجهات الرسمية ومثاله محاكمة سليمان الريسوني. لقد أضحت المعارضة السياسية وحرية التعبير في العهد الجديد عملية تجعل صاحبها يسير على حافة التهم الجنسية، وأنه في حال سراح مؤقت يطلبه القضاء متى ضاقت الجهات المعنية من رأيه وموقفه وتعبيره.
إننا في العهد الجديد إزاء فقدان السياسة – التي اعتبرها الفلاسفة امتداد للحرب أو الوجه الآخر للحرب بأدوات مغايرة – لكل أخلاقيات الحرب، ولم يعد الغرض من الحرب السياسية ضد المعارضة ردعها فقط، وإنما اغتيالها معنويا بتشويه سمعة رموزها والطعن في شرفهم وعِرضهم وأخلاقهم ومحاصرنهم في الوسط الاجتماعي والمهني بمثل هذه التهم، وهذا الكلام لا يعني أن أفراد المعارضة معصومون من الخطأ، كلا! غير أنهم لا يعاملون كسائر المواطنين الذين يتابعون يوميا أمام المحاكم وقد ضُبِطوا متلبسين حقيقة بهذه التهم، ولا تستدعى وسائل الإعلام المأجورة لتشوهيهم وتسريب ملفاتهم وجعلهم يتصدرون أخبار الوطن، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل ويؤكد سبق الإصرار والترصد في المعارضين إن لم نقل شيء آخر!
في أجواء هذه الحرب القذرة حوكم الصحفيون توفيق بوعشرين وهاجر الريسوني وعمر الراضي وسليمان الريسوني، وها هو يحاكم الدكتور محمد باعسو والتهمة واحدة. والسؤال متى ستعود هذه الحرب السياسة لأخلاقياتها ويستعمل أصحابها فقط الأسلحة المشروعة وفي الحدود المشروعة ما دامت المعارضة سلمية وغايتها فضح الفساد وإصلاح البلاد؟ لقد كان العهد القديم على بشاعته يحتفظ لمعارضيه ماء الوجه وقد خرجوا من معتقلاتهم وعادوا من منافيهم معززين مكرمين ونالوا الحضوة بين الناس، أما العهد الجديد فيخنق المعارضين بقفازات القضاء حتى لا يترك بصماته على ضحاياه إما بتهمة الجنس غير المشروع إن كان المعارض فردا أو بتهمة الانفصال إن كان المتهم حَراكا اجتماعيا.
لقد صدق الكاتب والروائي البريطاني جورج هربرت ويلز حين قال «نتيجة الحروب خلق اللصوص، ونتيجة السلام قتلهم». فافهم رعاك الله!

اترك رد