تحولات القضية الفلسطينية من نكبة 1967 إلى نكبة التطبيع الى طوفان وسط إعصارات دولية
بقلم: العلمي الحروني (.)
في أوج مرحلة الـمد القومي العروبي في الربع الثالث من القرن الـماضي، بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر حضيت فكرة “الوحدة العربية” بقبول شعبي عارم، وشكلت قوة ضاغطة على الأنظمة الرجعية العربية لتتجاوب مع الوضع بتجاوز الـمنطق القطري إلى رحابة العمل القومي الوحدوي.
وقد تنامى المد القومي العربي في الفترة 1950-1975 بقيادة جمال عبد الناصر وأحزاب البعث بالعراق وسوريا وتنظيمات أخرى باليمن وليبيا…
كانت هذه الفترة حبلى بعدة احداث ضمنها تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية / فتح سنة 1964، وحرب الايام الستة والهزيمة / النكبة سنة 1967، واحداث أيلول الاسود في الأردن و قمع وتشريد الملك الحسين للفلسطينيين سنة 1970، وعلى اثره غادر المقاومة الفلسطينية إلى لبنان سنة 1982 واجتياح الصهاينة لبيروت ومجازر صبرا وشاتيلا… خلال مدة الاجتياح 3 اشهر ادت لرحيل ياسر عرفات والمقاومة الى تونس واغتيال ابو جهاد… صيف 1982.
و خلال كامل هذه الفترة كان هناك صراع قوي مع الإخوان المسلمين بمصر واغتيال ومحاكمات لقيادات مثل سيد قطب وحسن البنا…
ورغم السياق الدولي “المتوازن” بواقع القطبين العالميين آنذاك، كانت حصيلة الصراع الصهيوني-الفلسطيني “المساند” عربيا ومغاربيا و المدعوم من الدول الشرقية حصيلة سلبية، وانتهت الفترة إياها إلى خفوت المد القومي العروبي.
وجاء المد الإسلامي، الذي عرف بدايته الأولى مع الهزيمة 67 لملء فراغات المد القومي العروبي المتواري، ليعرف انطلاقة قوية مع ثورة الخميني سنة 1979 لغاية 2011 مع الربيع الديمقراطي.
المد الاسلامي أنتج بدوره تأسيس حركتين للمقاومة سنية بفلسطين وشيعية بلبنان.
حركة المقاومة الاسلامية بلبنان/ حزب الله المؤسسة سنة 1982 (حركة شيعية)، وحركة المقاومة الاسلامية الفلسطينية حماس سنة 1987(حركة سنية) كان ذلك مع انتفاضة اطفال الحجارة 1987-1994 وهي اي “حماس” امتداد لحركة الاخوان المسلمين بمصر وفرع لها.
سنة 2006، فازت حماس بالانتخابات بفلسطين 76 مقعد من اصل 132 و 46 فقط لفتح، …، وفي سنة 2007، اندلعت حرب حماس/فتح بغزة خلال الفترة 10 الى 15 يونيو 2007 ومن نتائجها حل حكومة حماس وسيطرة هذه الأخيرة كليا على قطاع غزة وبدأ الصراع منذ ذلك الحين الى اليوم بين حماس وفتح/ السلطة.
وكما حدث خلال فترة المد القومي العروبي، وقعت اغتيالات للمفكرين المخالفين للإسلام السياسي مثل المفكر اليساري اللبناني القيادي بالحزب الشيوعي اللبناني حسين مروة المغتال سنة 1987 و المفكر اللبناني مهدي عامل في نفس السنة … واستمر احتدام الصراع ما بين المدين القومي والإسلامي لغاية اليوم.
خلال مرحلة الربيع الديمقراطي 2011 الى نهاية 2021، كان الحراك الديمقراطي الإقليمي شعبيا/مواطناتيا مع بلورة مطالب اجتماعية مشتركة بعمق سياسي . وفاز على اثره الإسلام السياسي في الانتخابات في كل دول الحراك بمصر وتونس والمغرب، … لكن الفشل كان حليفه لأسباب ذاتية وموضوعية، وكانت بداية تراجع المد الاسلامي لينضاف لضعف المد القومي العروبي لينتج وضعا حابلا بالخيبات حيث تنامى التطبيع الثقافي والاقتصادي والعسكري بين الدول العربية والمغاربية مع العدو الإسرائيلي وصفقة القرن وتوالت الاعترافات بدولة الكيان الصهيوني … حيث عرفت سنة 2020 وحدها توقيع اتفاقيات التطبيع مع الكيان الصهيوني مع كل من الإمارات والمغرب والسودان والبحرين وكأن التاريخ يعيد نفسه فيما يشبه نكبة جديدة.
مرحلة فبراير 2022- الى اليوم، تميزت باندلاع الحرب الأمريكية – الروسية بأرض أكرانيا (امريكا والغرب من جهة وروسيا بمساندة الصين والهند، وإيران… من جهة، إضافة لارتفاع حدة التوتر غير مسبوق للتحذيرات الحقيقية للصين لقضية جزيرة تايوان… وهو إعلان عن بناية القطبية الواحدة وبداية تشكل عالم جديد بقطبين أو اكثر.
إن للطبيعة الإستراتيجية الكبرى للحرب بأوكرانيا تداعيات مهمة وارتدادات قوية بعديد من الدول والقارات، حيث برز النفوذ الروسي مقابل اندحار النفوذ الفرنسي بإفريقيا ونفس الشيء بآسيا في عدة قضايا ومواقع مثل إيران فيما يتعلق بمشروعها النووي ونفوذها الاستراتيجي السياسي بالمنطقة.
البعد ” العالمي” لتلك الحرب، كان سببا كامنا وراء تفجير الصراع الدولي بغزة يوم 7 اكتوبر لغاية اليوم وجسده طوفان الأقصى المزعزع للكيان الصهيوني المدعوم من طرف أمريكا والدول الغربية من جهة، والمقاومة الفلسطينية المدعومة ب”حلفاء” روسيا وخاصة إيران وادواتها بلبنان والعراق واليمن… من جهة أخرى. هكذا انتقلت القضية الفلسطينية من بعدها العرقي- الديني (كصراع عربي-إسرائيلي) إلى بعدها الأممي كقضية عادلة لشعب احتلت أرضه.
خلال كل المراحل الأربع السالفة الذكر، كان الوعي الإقليمي العام بمركزية القضية الفلسطينية وبمخاطر المشروع الصهيوني ينمو بتلازم مع بروز نهوض المشروع الإقليمي الوطني – العرقي – الديني للجغرافية المحلية، ومع تصاعد النضال الوطني الفلسطيني، وكان يتراجع مع تراجعهما.
طوال مرحلة الهيمنة الامريكية الغربية التي عملت على ترسيخ الهاجس العرقي/الديني في الصراع حول القضية الفلسطينية، سيكون مبررا “منح المشروعية” للكيان الصهيوني لارتكاب مجازر ضد الشعب الفلسطيني بذريعة أن هذا الكيان “كدولة ديمقراطية” المحاط بأعداء عرب ومسلمين الشيء الذي يبرر حقه في “الدفاع عن نفسه” وبناء دولة دينية.
إن تخلي جل دول المنطقة ولاسيما الأنظمة العربية والمغاربية عن القضية الفلسطينية منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي، بداية مع اتفاقية كامب ديفيد، واتفاقية وادي عربة، والصمت العربي الرسمي على اجتياح إسرائيل للبنان، وانتهاء بمسلسل التطبيع الذي هندسته أمريكا في إطار ما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الجديد، ولاحقا بصفقة القرن من خلال الاتفاقيات الابراهيمية تمهيدا للإجهاز على مقترح حل الدولتين، وتحويل القضية الفلسطينية إلى مسألة اقتصادية تتطلب بعض المشاريع التنموية، هذا التخلي، ساعد في انتقال الصراع الفلسطيني-الصهيوني إلى صراع وجودي في إطار صراع دولي.
وفي هذه المرحلة (فبراير 2022 الى اليوم) التي تشهد احتداما للصراع الاستراتيجي بين محور صاعد تتزعمه روسيا ومحور تقليدي غربي بزعامة أمريكية، ستشهد القضية الفلسطينية مسارا مغايرا لما شهدته بعد النكبتين: نكبة 1967 ونكبة التطبيع الحالية. والمستقبل سيجعل القضية تتجاوز محيطها العرقي والديني لتلامس بعدها الكوني كقضية انسانية عادلة، بصفتها استعمار واغتصاب لحقوق شعب.
هذا المنعطف، أدخل القضية الفلسطينية في سياق دولي جديد ومختلف عن نشأة الكيان الصهيوني المتسم بهيمنة الغرب الأطلسي على النظام الدولي. هذا التحول يعد مدخلا ضروريا لتوافقات سياسية دولية جديدة تقوم على إعمال القانون الدولي، لإيجاد حل عادل لهذا الصراع التاريخي، حل يستجيب لحقوق الشعب الفلسطيني كساكنة اصلية في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
(.) ناشط سياسي وحقوقي