حرية الصحافة بين سطوة النفوذ الحزبي ووهم الصراع مع السلطة
طالما ارتبط الحديث عن حرية الصحافة في المغرب في الفضاء العمومي بتقابل نمطي بين الصحافي والسلطة، وكأن كل انتكاسة تعرفها المهنة تُعزى تلقائيًا إلى تدخل الدولة أو تضييق أجهزتها. غير أن هذا التصور، رغم رسوخه في الوعي العام، لم يعد يعكس بدقة حقيقة المعادلات الراهنة، حيث إن الفاعل السياسي الحزبي أضحى الطرف المركزي في اختلالات المشهد الإعلامي، سواء عبر التوجيه غير المعلن، أو الهيمنة الاقتصادية، أو التأثير عبر القرب الأيديولوجي والتنظيمي.
في كثير من الحالات، لا تكون السلطة طرفًا مباشرًا أو فاعلًا في التدافع الإعلامي كما يتصور البعض، بل تظل محايدة إزاء الاصطفافات والصراعات السياسية التي تنعكس على الإعلام، والتي تُغذّى من داخل المنظومة الحزبية ذاتها. بل إن السلطات، بما فيها المؤسسات الدستورية والإدارية، غالبًا ما تلتزم الحياد في علاقتها بالإعلام، ولا تتدخل إلا عندما تُطلب منها الضمانات القانونية أو التحكيم المؤسسي في حال وقوع تجاوزات واضحة.
غير أن بعض الفاعلين الحزبيين، في سعيهم إلى احتكار الفضاء العمومي وتوجيه النقاش العمومي، يعملون على توريط السلطة أو توظيفها كغطاء لخلافاتهم أو محاولاتهم لتكميم الصحافة المستقلة، عبر نسب كل احتقان أو تضييق إلى مؤسسات الدولة، في حين أن حقيقة التدافع تنبع أساسًا من صراع مواقع حزبية، تتخذ فيه الصحافة موضوعًا وأداة ضغط في الآن نفسه.
إن النفوذ الذي يمارسه الفاعل الحزبي على الصحافة، لا يكون بالضرورة عبر آليات المنع أو الرقابة المباشرة، بل غالبًا ما يتمظهر في ضغوط ناعمة، أو ولاءات خفية، أو ترتيبات مالية غير معلنة، تنتهي إلى تدجين عدد من المنابر وتحويلها إلى أدوات اصطفاف سياسي. وهنا يكمن التهديد الحقيقي لاستقلالية الصحافة، لا في سلطة الدولة كمؤسسة، بل في الهيمنة الرمادية التي يمارسها الفاعل الحزبي باسم الديمقراطية تارة، وباسم حرية التعبير تارة أخرى.
إن اختزال معركة حرية الصحافة في مواجهة السلطة، هو تبسيط مخل. فالمشكلة ليست في تدخل الدولة، بل في سعي بعض الفاعلين السياسيين إلى تحويل الصحافة إلى امتداد لخطابهم ومصالحهم. وبالتالي، فإن المعركة الحقيقية من أجل إعلام حر ومسؤول، تمر أولًا عبر فضح هذا التداخل وتفكيك آليات التأثير الحزبي داخل المنظومة الإعلامية، لا عبر افتعال صراع مع السلطة قد لا تكون طرفًا فيه أصلًا.
لقد آن الأوان للتمييز بين الدولة كمؤسسة تسهر على التوازنات وضمان الحقوق، وبين الفاعل الحزبي الذي قد يوظف نفوذه داخل المؤسسات أو خارجها للضغط على الصحافة أو التأثير في توجهاتها. ومن الخطأ الاستمرار في تحميل الدولة تبعات صراعات لا تُدار في مؤسساتها، بل تُصنع في دواليب السياسة الحزبية، وتُخاض في منابر الإعلام.
إن مسؤولية حماية حرية الصحافة تقع على الجميع، لكن أولى الخطوات تبدأ بتحديد الأطراف الحقيقية التي تشتبك مع الإعلام، لا تلك التي تُستعمل غطاءً لتبرير الهيمنة.