ذرة موقف في زحام اللاإنسانية

بقلم: سعيد عاتيق
في عالم يشهد تسارعاً هائلًا للمتغيرات السياسية والاجتماعية، لا تكاد تفرّق فيه بين الحق والباطل، تصبح المعركة الحقيقية ليست معركة الأعداد والسلطة، بل معركة المواقف والصدق. إننا نعيش في زمن تكاد تكون فيه الحقيقة مغيّبة وسط ضبابية الحياة اليومية، حيث أصبحت المصالح الشخصية والمجتمعية هي الطاغية على كل القيم الإنسانية الأصيلة.

تاريخ الإنسانية، وإن كان مليئًا بالإنجازات والتطورات، إلا أنه لطالما كان شاهداً على فترات طويلة من القهر والظلم، وعلى استمرار طغيان القوة وتسلّط الأنظمة الاستبدادية. حتى في العصور التي قد توصف بأنها “ذهبية”، كانت هناك فئات مستضعفة تحت ظلم أبطال تلك الحقبات.
إذن، هل نحن حقاً أمام تاريخ يحقق رفاهية للجميع؟ الجواب يكاد يكون لا، إذ غالباً ما تكون رفاهية الأكثرية على حساب شقاء الأقلية.

لكن، ورغم هذا الواقع المُحبط، لم تخلُ البشرية في أي وقت من أولئك الذين حملوا شعلة المقاومة، حتى ولو كانت مقاومتهم ضعيفة ومحدودة التأثير. أولئك الذين، رغم علمهم بأن مواقفهم قد لا تحدث فارقاً كبيراً، استمروا في التمسك بما يعتقدون أنه الصواب، من أجل أن تظل شعلة الأمل مشتعلة.

في ظل هذا الواقع القاسي، تبرز “الذرة” في كل موقف نقي، في كل كلمة صادقة. صحيح أن التأثير قد يكون محدوداً، إلا أن هذه المواقف، مهما كانت صغيرة أو غير ملحوظة، تبقى تمثل جوهر المقاومة الحقيقية. إن موقفًا واحدًا، شريفًا ونقيًا، في مواجهة انعدام الإنسانية، له القدرة على ترك أثر عميق رغم صوته الخافت. قد لا يغير الواقع في اللحظة نفسها، لكن يمكن أن يكون الشرارة التي تضيء درب التغيير في المستقبل.

ما نشهده اليوم من تواطؤ ضمني مع الواقع الفاسد، ليس إلا نتيجة لضعف الرؤية الإنسانية وتغليب المصالح على القيم. لكن وسط هذا الجمود، تظل بعض الأصوات، على الرغم من قلة عددها، قادرة على الحفاظ على جوهر الإنسان، حتى لو كانت غير قادرة على إحداث التغيير المباشر.

إذا كان التاريخ يعلمنا أن النصر لا يأتي دائماً بسرعة، فإن التاريخ نفسه يُذكّرنا أيضاً بأن أولئك الذين يصرون على التمسك بالإنسانية وسط العتمة، هم الذين يضعون الأسس لعالم أفضل. حتى لو كانت ذرة واحدة من الصدق في هذا الزمن هي التي تميز الغارقين في زحام النفاق.

علينا أن نتذكر أن كل موقف صغير، مهما بدا ضئيلاً، يحمل قيمة حقيقية. فلنحافظ على تلك الذرة من الموقف، لأنها قد تكون ما يبقى لنا في هذا العالم الفوضوي .

اترك رد