من جاهلية عصر الرسول ﷺ إلى جاهلية عصرنا الموبوء بالطغيان؟ ح.1

بقلم: محمد وراضي

قبل إبراز مفهوم الجاهلية، نشير إلى أنها أدركت القمة فيما تتعرض له غزة الفلسطينية من هجمات همجية جاهلية، وراءها الصهاينة المدعون بأنهم يطبقون التوراة، وإلى جانبهم من يدعون أنهم يطبقون الإنجيل! دون السكوت عن دور سيء لحكام يدعون بأنهم مسلمون! وما يجري على أرض الواقع يدل على أن هؤلاء جميعهم أفاكون مجرمون سفاحون!!

    وهكذا نوضح مفهوم الجاهلية الحقيقي الذي لا يعني مجرد سيطرة الأمية بغياب القراءة والكتابة؟ مما يدل على غياب الاشتغال بأي علم في شبه الجزيرة العربية، وفي الوقت ذاته غياب أية ثقافة وأية مدارس أو معاهد؟ بينما الجاهلية تعني التذبذب في مختلف المجالات الحياتية، وفي طليعتها المجال الأخلاقي الذي تزوده الاعتقادات الدينية السائدة قبل غيرها، إلى حد إمكان القول: من لم يتدين فقد اختار أن لا يتدين. وما اختاره هو لون من ألوان التدين بالفعل. إذ من المعروف تاريخيا “أن الدين الإسلامي الحنيف رأى النور في مدينة مكة من الحجاز في وسط بدائي وبيئة جاهلية قد تردت في حمأة الخمول والجهل، من حيث معتقداتها الدينية، فتنوعت فيها الأصنام، وازداد عدد الأوثان فأصبح لكل عشيرة وقبيلة وفخذ أرباب من دون الله، ولكل بيت آلهة”؟

    وهذا الوضع الموصوف في حد ذاته دليل على وجود ثقافات بالفعل، ووجودها ينفي مفهوم الجاهلية السائد لدى كافة المثقفين عندنا، وخاصة منهم الإسلاميون. فقد كانت لليهود ثقافة دينية وللنصارى كذلك ثقافتهم الدينية.

   فثقافة اليهود “تعتمد أول ما تعتمد على التوراة التي أشار إليها القرآن بقوله: “إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور”. وحدد بعضا مما جاء فيها من أحكام بقوله: “وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين «الخ.

    وكثيرا ما يستعمل المسلمون واليهود أنفسهم لفظ “التوراة”، ويطلقونه على كل الكتب المقدسة عند اليهود، فيشمل الزبور وغيره، وتسمى التوراة بما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها: العهد القديم.

    وكان لليهود بجانب التوراة “سنن ونصائح وشروح لم تؤخذ من موسى بطريق الكتابة، وإنما تحملوها ونقلوها بطريق المشافهة، ثم نمت مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال، ثم دونت وعرفت باسم: التلمود، ووجد بجوار ذلك كثير من الأدب اليهودي، والقصص، والتاريخ،والتشريع، والأساطير.

    أما النصارى فكانت ثقافتهم في الغالب تعتمد على الإنجيل. وقد أشار القرآن الكريم إلى أنه من كتب السماء التي نزلت على الرسل فقال: “ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل”.

    و”الأناجيل المعتبرة عند النصارى يطلق عليها وعلى ما انضم إليها من رسائل الرسل: اسم العهد الجديد. وكان طبيعيا أن يشرح الإنجيل بشروح مختلفة، كانت فيما بعد منبعا من منابع الثقافة النصرانية، كما وجد بجوار ذلك ما زاده النصارى من القصص والأخبار والتعاليم التي زعموا أنهم تلقوها من عيسى عليه السلام. وهذا كله من ينابيع هذه الثقافة النصرانية”.

    فقد كانت التوراة إذن هي المصدر الأول لثقافة اليهود الدينيةفي الجزيرة العربية، كما كان الإنجيل المصدر الأهم لثقافة النصارى الدينية في نفس المنطقة.

    غير أن الثقافتين الدينيتين لدى اليهود والنصارى عند مجيء الإسلام كانتا مشوهتين، فكان الله لهما بالمرصاد من خلال كتابه العزيز الذي فضح فيه التشويه الديني الذي عليه اليهود والنصارى بوضوح تام. فكان أن أفلح جل المفكرين الممهدين للنهضة الأوربية منذ ما يقرب من ثلاثة قرون، في فضح ما فضحه القرآن بعبارات غاية في الدقة والبلاغة. وما فضحه القرآن والمفكرون الممهدون لتلك النهضةيرسخ في الأذهان الهمجية الغربية وجاهليتها في العصور الوسطى على المستوى المادي والمعنوي. وهي الآن تصب غضبها على فلسطين المنهوبة؟

    فقد أعلن “سبينوزا” أن في العهدين القديم والجديد (= التوراة والإنجيل) شيئا جديرا بالحياة: الأخلاق. أما ما يرويانه من أشياء أخرى فغير قابل للتصديق. ويقول فولتير: “الأخلاق صادرة عن الإله، إنها متشابهة في كل مكان، واللاهوت صادر عن البشر. إنه متباين في كل مكان ويستحق السخرية”. وما عليه اللاهوتيون بعبارة، أو ما عليه الكهنوتيون بعبارة د. محمد الفايد هو الذي سوف يقدم لنا فولتير بعد حين بعضا من صوره المثيرة.

    يقول: “إن الكنيسة تصرح بأن الأفكار التي جاء بها يسوع المسيح مبشرا بها على الأرض أمانة في عنقها. وتتطلب لهذا السبب أن يقر كل فرد بسلطانها ويمتثل لوصاياها، لا شيء أكذب من هذا الزعم، فليس من علاقة أبدا بين مبادئ يسوع ومبادئ الكنيسة: امسكوا الإنجيل بيد، وهذه المبادئ باليد الأخرى، وانظروا هل من مبدأ من هذه المبادئ في الإنجيل؟ ثم احكموا، هل المسيحيون الذين يعبدون المسيح هم على دين المسيح”؟

    ثم يقدم فولتير كلمته الجارحة وسخريته الذابحة فيقول: “إن المسيح لم يقل قط في الإنجيل: لقد جئت وسأموت كي أجتث المعصية الأصلية. إن أمي بتول، وأن جوهري وجوهر الله واحد، ونحن أقانيم ثلاثة في الله، وأن لي طبيعتين وإرادتين، ولست إلا شخصا واحدا، لست أبا ولكني والأب شيء واحد، فأنا هو ولست هو (…) كل الكون صائر إلى الهلاك الأبدي، وأمي معه، ولكن أمي أم الله، آمركم أن تضعوا بالنطق في كسرة خبز صغيرة جسمي كله، شعري، أظافري، لحيتي، بولي، دمي، وأن تضعوا في ذات الوقت دمي على حدة في كأس نبيد (…) إن المسيح لم يقل شيئا من ذلك كله، ليس هذا فحسب، بل إنه لم يفكر فيه قط، ولو قيض له أن يرجع بيننا، فكم سيكون غضبه شديدا، وكم ستكون دهشته عظيمة”!

   وفي القرآن الكريم تأييد لقول فولتير، أو على الأصح ما أيده فولتير وأكده: “وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ءآنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، إن كنت قلته فقد علمته. تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك. إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم. وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم. فلما توفتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد، إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فأنت العزيز الحكيم”!!

    وعندما نفحص تاريخ الشعب اليهودي نجد أن هذا الشعب لا يظهر في وجه براق “فطورا يكتب له الظفر وحينئذ يصبح شرسا يفتك بالمغلوبين، ويبطش بالرجال والنساء والأطفال بنشوة جنونية (ما يحدث الآن في غزة!!!)، وطورا يكتب له الخذلان، وحينئذ يستحق الأسى والرثاء، وهو في أغلال العبودية المؤلمة في مصر وآشور وفينيقيا. ليس هذا الشعب بالشعب العظيم. إنه “وضيع” و”سافل” كان في البدء مجموعة من قبائل الساميين الرحل، واستقر أخيرا في أرض فقيرة، جافة، قاحلة بالأحرى، وليس في ذلك ما يدل على وجود اصطفاء إلهي “!

    ولمزيد من توضيح الثقافة اليهودية نقول: “كم في التوراة من تأكيدات غير جديرة بالتصديق، فما القول بملائكة يقعون في شباك هوى بنات حواء؟ ويعقبون منهن جيلا من العمالقة”؟ إلى آخر خزعبلات نتجنب الإتيان بالمزيد منها؟؟؟

وإن قمنا بتصفح الإنجيل لوجدنا “أن حظه من الاحتمال العقلي ليس بأوفر، فالأناجيل لست متكاملة فيما بينها، بل تتناقض وتتعارض”. إلى حد أنها كان لا بد من تجميل الوقائع استهواء للجماهير، فجملها بعضهم بشكل وبعضهم بشكل آخر، وإلا ما أقنعوا أحداّ”.

    فكان من الطبيعي أن يدرك الغرب الأوربي بتشويه الدين ذروة الجهل والتخلف، ثم إنه من الطبيعي أن يثور المفكرون المتذمرون من وضع الدين ومن تصرفات الكهنوتيين القائمين بتشويهه وتفعيله المزعوم، فكانت النتيجة ما يدور حولنا اليوم من طرف اليهود والنصارى في الآن ذاته، فهم المغضوب عليهم ربانيا، وهم الضالون، على حد تفسير بعض المفسرين، وإلا فإن الظلاميين والملحدين على الإطلاق هم المقصودون؟؟؟ وما اتصفوا به من ضلال وغش وخداع ومكر لا يزالون عليه كإرث همجي من حقنا أن نعتبره جاهلية جهلاء. وبيننا وبين خصومنا الملاحدة والكهنوتيين مجال تاريخي لمعرفة أي فرق بين جاهلية عهد رسول الله وبين الجاهلية المعاصرة التي نحتاج إلى مؤلفات ضخمة لبلورة وجهها الحقيقي.

    وهنا أقف لحظة لأبين لكم السبب الذي حملني على تأليف كتاب “عرقلة الفكر الظلامي الديني للنهضة المغربية”. كما أنني أقف لحظة لأبين لكم كيف أن كارل ماركس على حق حين قال: الدين أفيون الشعوب”. لكن مهلا أيها المغاربة، ويا أيها الملحدون في كل مكان لأبين لكم كيف أن الدين الذي يعنيه ماركس، هو الدين المسيحي المشوه الذي سخر منه فولتير في الفقرات الماضية. أما الدين الإسلامي فلم يكن ماركس يعرفه، ولا كان خصما من خصومه، فضلا عن كون ديننالم يعرف الهمجية أو الجاهلية كالتي أشرف عليها الكهنوتيون في الغرب. فالإسلام وإن عرف زلقات، في مجال الظلم والطغيان، فبينه وبين جاهلية الغرب الأوربي حتى الآن مسافات وبحور. ولأي متشكك فيما نؤكدهأن يحاول إحصاء من ذهبوا من المسلمين ضحية هذا الغرب الجاهلي والذين يقدرون بأحد عشر مليون نسمة،  في فترة حكم ثلاثة رؤساء أمريكيين هم على التوالي: بي كلينتون، وبوش الإبن، وباراك أوباما؟؟؟

اترك رد