نحو منهجية علمية لتمييز المؤلفات القانونية الجادة في زمن تضخم النشر

بقلم: ياسين كحلي (.)

في عالم تتسارع فيه وتيرة النشر العلمي وتتشعب فيه المنصات المعرفية، لم يعد الباحث القانوني يواجه صعوبة في الوصول إلى مصادر للمعلومة، بل أصبح غارقا في فائض معرفي يحتاج إلى مهارة الغربلة لا الجمع. فالمشكلة اليوم لم تعد تتمثل في شح المادة القانونية أو ضيق النطاقات البحثية، بل في طوفان من المؤلفات التي تتفاوت تفاوتا كبيرا في مستوياتها العلمية، حتى أصبح من العسير التمييز بين الكتاب الجاد الذي يسهم في تطوير الفكر القانوني، وذلك الذي لا يعدو كونه إعادة إنتاج للمألوف في ثوب جديد، دون روح تحليلية أو رؤية نقدية أو صلة حقيقية بالتطورات التشريعية و القضائية.

هذا المشهد يضع الباحث أمام مسؤولية علمية مضاعفة، حيث لم يعد بمقدوره أن يركن إلى المظهر أو الشهرة أو كثافة الصفحات، بل صار لزاما عليه أن يملك أدوات تقويمية رصينة تمكنه من اختيار المراجع التي تستحق أن تؤسس عليها أطروحته أو تُنير له مسار بحثه .

ومن أبرز ما يجب أن يتنبه إليه الباحث أن الشكل لا يعكس بالضرورة المضمون. فكثير من الكتب القانونية تحمل عناوين رنانة وتصميمات غلاف جذابة، غير أن محتواها قد يكون فقيرا، أو مكرورا، أو سطحيا إلى حد يفرغها من القيمة العلمية. لا بد من فحص البنية المنهجية التي بني عليها الكتاب، فالعمل القانوني الجاد يتميز بصرامة منهجية واضحة، تبدأ بتحديد إشكالية دقيقة، وتنطلق في معالجتها من أسس نظرية مدروسة، وتعتمد آليات تحليل تتسم بالتدرج المنطقي والانضباط المفاهيمي.

ما يميز المؤلف الجاد ليس فقط ما يقوله، بل كيف يقوله : كيف يبني أطروحته، وكيف يحشد الأدلة عليها، وكيف يحكم الربط بين فصوله. أما الكتب التي تفتقر إلى هذا البناء المتماسك، فتكون في الغالب مجرد تجميعات معرفية ـ من قبيل وجيز في …؛ محاضرات في … ـ لا تعكس تفكيرا قانونيا ناضجا، بل تعيد إنتاج سرد تقريري لا يتجاوز النقل.

ولا يعد غنى الهوامش والمراجع دليلا كافيا على عمق الطرح، ولكن الإحالة إلى مراجع موثوقة ومصادر معتمدة تظل مؤشرا مهما على جدية المؤلف. إن القدرة على تتبع المراجع القانونية ومقارنتها والاختيار الذكي من بينها تكشف عن عقلية نقدية تبحث عن الرصانة لا الكم. لذا، يجب على الباحث أن يتساءل : هل تظهر إحالات المؤلف انفتاحا على تجارب قانونية متنوعة ومدارس فكرية متعددة ؟ هل يوازن بين المصادر الفقهية الكلاسيكية والاجتهادات الحديثة؟ هل يدقق في توثيق النصوص ويبين سياقاتها ؟ فالكتاب الذي يعتمد على مصادر محدودة ومتكررة، أو يكثر من النقل الحرفي دون تحليل أو تعليق، لا يعول عليه في بناء مشروع علمي يطمح إلى الإضافة ولا يساعد الباحث في تعميق أفكاره القانونية .

ومن دلائل جودة المرجع القانوني نجد كذلك مدى اقترابه من الواقع، ذلك أن الطرح القانوني المعزول عن السياق التشريعي والقضائي يفقد قدرته التفسيرية، ويصبح أقرب إلى تنظير أكاديمي خامل أي فاقد للحيوية الفكرية.

إن المؤلف الجاد هو من يقحم القارئ في نبض الواقع بحثيستحضر وقائع قضائية معاصرة، ويحلل الأحكام، ويقارن بين النصوص والتطبيقات. كما يبرع في تبيئة المفاهيم القانونية ضمن الإطار الوطني أو الدولي، فلا يكتفي باستيراد نظريات من خارج السياق، بل يعيد قراءتها في ضوء المتغيرات القانونية والاجتماعية الوطنية. أما من يكتفي بالسرد النظري البعيد عن التطبيق، فإن كتابه يفقد الكثير من جدواه، مهما بلغت فصاحته أو كثرت استشهاداته.

والنص القانوني العميق لا يكتب بلغة زخرفية أو أسلوب إنشائي بحت، بل يتسم بالدقة، والاقتصاد في العبارة، والوضوح في المفاهيم. على اعتبار أن فحص لغة الكتاب يُعد مدخلا أساسيا لفهم عقل المؤلف ومنهجه :

هل يستخدم مصطلحات دقيقة ومعرفة ؟ هل يراعي وضوح التعبير وسلاسة العرض؟ هل يلتزم بالموضوعية والصرامة في الطرح؟ كثير من المؤلفات القانونية تقع في فخ الغموض المتعمد أو الإطناب غير المبرر، أو تفرط في استخدام المصطلحات الأجنبية دون شرح أو ربط، فتحيل القارئ إلى متاهة معرفية دون أن تقدم له زادا علميا حقيقيا. في حين الكتاب الرصين، فغايته البيان لا التباهي، والتعليم لا التمويه.

ويبقى من الأهمية بمكان التعرف على خلفية المؤلف ومدى ارتباطه بالمجال القانوني الذي يكتب فيه. فالكاتب الذي يمارس البحث العلمي، ويسهم في المؤتمرات، وينشر له في المجلات المحكمة، يكون في العادة أكثر التصاقا بالتحولات القانونية وأكثر وعيا بالإشكالات الراهنة. وليس المقصود هنا تفضيل الأسماء اللامعة على غيرها، بل فحص التجربة البحثية للمؤلف وسيرته المهنية، ومدى انسجامها مع مضمون الكتاب. إذ ليس كل من كتب في القانون يعد باحثا، فثمة من يمارس الكتابة من باب التكرار أو التسويق، دون أن تكون له رؤية علمية أو مشروع معرفي واضح.

انطلاقا من كل ما سبق؛ فإن الانتقاء الواعي للكتب القانونية لا يعد تفصيلا ثانويا، بل هو لب العمل البحثي وأحد مفاتيحه الأساسية. إن الباحث القانوني، لكي يضمن لنفسه مسارا علميا سليما، يجب أن يتحرر من سلطة العناوين اللامعة ومن هيمنة المنطق التجاري في صناعة النشر ، ويتجه إلى التقييم النقدي الواعي القائم على الفحص العميق للمضامين والأدوات والمناهج.

فالمعرفة القانونية لا تقاس بغلاف الكتاب ولا بعدد صفحاته، بل بقدرته على التأثير في الفكر، وإحداث الإضافة، وإثارة الأسئلة الجوهرية التي تبقي العلم حيّا ومتجددا.

(.) مستشار قانوني وباحث في العلوم القانونية

اترك رد