التربية الإبداعية وتحرير الإنسان من القيود الفكرية والنفسية

بقلم: محمد جواد سيفاو (*)

الحرية والتمرد قرينة الإبداع، ولا إبداع بدون حرية، وينمو الإبداع عند الحي المبدع بمقدار ما يتمتع به من حرية تجعله يصنع لنفسه وبنفسه ما يحقق له إدراكا عميقا بوجوده، ويجعله يبدع جديدا بعد جديد، حيث أن قدرة الإنسان على التمرد بالإبداع، وعلى انتتاج الجديد تقاس بمقدار ما يتمتع به من حرية، وإن أفتك ما يفتك بالطاقة الإبداعية هو أن يكبل الأفراد بقيود ومحرمات اجتماعية ومعوقات تحول دون انطلاق أفكارهم ومشاعرهم وتشل مواهبهم، ولكي تكون تربية الإنسان المبدع، فلابد أن تستهدف تحرير مشاعر الحرية بداخله، لا الحرية التي تفسح له مجال الفكر والعمل بتحطيم أغلاله السياسية والاجتماعية فحسب، بل تلك التي توحي إليه بفكيك قيوده العقلية والنفسية، لا الحرية التي تشق للإنسان سبيل الوصول إلى ما يشتهي ويرغب، بل تلك التي تعلمه ماذا يشتهي وماذا يرغب، ذلك أن القيود النفسية لا تقل عن القيود الخارجية شدة وخطورة، ولا تتم الحرية الحقيقية التي هي مهاد الإبداع وتربته الصالحة إلا بفك كل قيوده.
وأول القيود الخانقة للإبداع التي يجب أن يجب أن تقصد التربية تحرير الإنسان منها:
الجهل : فالمرء يظل عبدت لما حوله مادام يجهله فإذا عرفه وفهم أسبابه ونتائجه تحرر منه، والتاريخ يظهر لنا بوضوح ان الإنسان بقي عبدا للطبيعة أجيلا طوال إلى ان اخذ يكتشف أسرارها، فانقادت له وأصبح لها سيدا ومسخرا، ولا يزال الإنسان إلى اليوم في مناطق عديدة من العالم عبدا للأمراض والفيروسات وما سواها من قوى محيطة لأنه يجهل نشؤها وأحوالها، فطل خطوة جديدة يخطوها العلم تحطم قيدا من قيود الإنسان وتحجره منه، فالمعرفة إذن وجه من وجوه الحرية، بل هي الحرية الحقيقية نفسها لأن الجهل هو أقوى قيد يوثق طاقات الإنسان اللامحدودة، ومنه تنشأ كل القيود الأخرى، ولذلك نرى في العالم العقلاني والعلمي أفضل مثال للحرية الصحيحة، الحرية الخالصة من الأوهام والخرافات، ومن الأهواء الشخصية والتبرعات الطائشة، الحرية البريئة من الخوف، والحرية التي لا يقيدها إلا شيء واحد تتعلق به وتضحي من أجله وهو الحق الإنساني في الحياة على أرض يسع للجميع.
إن أدرك الإنسان بشيء معناه حريته إزاء ذلك الشيء، يصوغه كما يشاء ويحركه كما يشاء، ومزيد من العلم به هو في الوقت نفسه مزيدا من حرية الإنسان، وبالعلم وبالمعرفة تحرر الإنسان من قيود الزمان والمكان، إنه إذ عرف سر البخار وقدرته كان له القطار والباخرة والمصنع الذي تدور عجلاته بغير سواعد البشر، وإذ عرف الكهرباء ازداد تحرره من قيد المكان، وتحولت ظلمة الليل إلى ضوء كهربائي يجول الأسلاك النحاسية بالمدن والمداشر،ثم عرف الذرة وقوتها الحبيسة فعرف كيف يطلق تلك القوة من سجنها فكان له ما كان من معجزات يكتشفها ليل نهار، إنه التحرر من قيود المكان والزمان.
وهذا الوجه من أوجه الحرية مكتسب، تكسبه التربية للإنسان، فالتحرر من الجهل والتزود بالمعرفة عمل تربوي بالدرجة الأولى، ولا نقصد بالمعرفة تلك المعلومات المتفرقة التي نحشو بها أذهان التلاميذ، بل تتجاوز التربية بالتلاميذ مرحلة الإلمام بالمعرفة إلى مرحلة استيعابها وتمثلها وتوظيفها وتوليد الجديد منها، وإتقان مناهج البحث عنها وممارسة الحياة بها وإتقان أدوات التعامل معها وكيفية الحصول عليها، وتنجح التربية في تحرير الإنسان من قيد الجهل القاتل للإبداع إذا هي استحثت جانب المغامرة والمبادرة في مواجهة المجهول وهتك أستاره وكشف أسراره. أن المغامرة قدرة يجب أن تجعلها التربية في طليعة القدرات التي نربي بها أبناءنا على اكتسابها، ولابد لهذه القدرة من شحذ وتدريب وتنمية حتى تثمر المعرفة وتنتج العلم ومن تم يكون الإبداع.
تتجلى خطورة الجهل في ارتباطه الجدلي مع التعصب، ذلك الذي يربط الفرد بفئة خاصة أو طائفة معينة، ويفصل بينه وبين الأخرين والجماعات الأخرى بحواجز البغض والكره والضغينة، والتعصب الفكري والعقلي يعني في نظرنا ذلك الاعتقاد الباطل بأن الفرد يحتكر لنفسه الحقيقة او الفضيلة وبأن غيره يفتقر إليها، ومن تم فهم دائما مخطئون أو خاطئون، ومن هنا فإن التعصب الذي يتخذ شكل تحمس زائد للرأي الذي يقول به الشخص نفسه، أو العقيدة التي يعتنقها يتضمن في واقع الأمر بعدا آخرا: فهو يمثل في الوقت نفسه موقفا معينا من الآخرين، فحينما يكون الفرد مستعصيا لا يكتفي بأن ينطوي على ذاته وينسب إليها كل الفضائل بل ينبغي أيضا أن أستبعد فضائل الآخرين او انكرها.
فالتعصب إذن هو في أساسه نظرة سلبية إلى الغير، والمتعصب يتجه بتفكيره أساسا إلى الآخرين في حقد وحسد أو احتقار، ويميل إلى إلحاق الضرر بالغير أكثر ما يميل إلى تأكيد مزاياه أو كسب متعة لنفسه. ولا يمكن لهذا الشخص أن يكون مبدعا.
ويختلف التعصب عن الاعتداد بالنفس والثقة بها وهي سمة أساسية من سمات المبدعين وصفة أساسية لأداء المبدع. ذلك لأن المعتد بنفسه لا يبني تمجيده لنفسه على أنقاض الآخرين، بل قد يعترف لهم بالفضل مع تأكيده لفضله هو أيضا، أما المتعصب فلا يؤكد ذاته إلا من خلال هدم الغير.
المبدع لا يكره الآخرين ولا يتعصب ضدهم لأنه لا يحتاج في إنتاجه الإبداعي إلى ذلك بل يحتاج إلى التسامح مع الآخرين. والمبدع لا يستنفذ طاقته إلا فيما يبدع فيه لا في التحامل على الآخرين والحقد عليهم ولا في تأكيد ذاته على حساب الآخرين.
وكيف يمكن للمتعصب أن يبدع وهو يمحو شخصيته أساسا ويمحو فرديته ويذيب عقله ووجدانه في الجماعة التي يتعصب لها، ولا يدرك ذاته المتميزة والفريدة؟
وكيف يمكن للمتعصب أن يكون مبدعا وهو أسير فكرة محددة ينغلق عليها ويتعصب لها وتسيطر عليه فلا يفكر إلا فيها ولا ينفتح على غيرها ولا يتمتع بالمرونة التي تسمح بتغيير الأفكار كلما تغيرت المواقف، وتمحى باتخاذ مواقف فكرية جديدة على أساس عقلاني منطقي؟
ومن تم كان على التربية بالمغرب المعاصر أن تربي أبناءنا على الموضوعية وعلى قبول تعدد الآراء والأفكار حول الظاهرة الواحدة، زعلى عدم قبول الآراء إلا بعد اختبارها بالعقل، وأن ترسخ في نفوسهم مبدأ التسامح في الفكر والعقيدة، وان تشجعهم على التفكير العلي الذي يرتكز على الراهين العلمية والأدلة المنطقية، وأن يكون المنطلق دائما ان العلم لا يعترف بشيء اسمه الحقائق النهائية .
ولكي تحرر التربية أبناءنا من قيد التعصب القاتل للإبداع فإن ليها ان تغرس في نفوسهم قيمة الحياد وأن يتشرب أبناؤنا هذه القيمة من خلال البيداغوجيا الإبداعية المعاصرة والأنشطة التربوية التي تصبوا إلى تنمية ملكات الطلاقة والأصالة والمرونة، وأن تعودهم من خلال التدريب والممارسة على أن لا ينحازوا إلى رأي أو فكرة مقدما قبل الفحص والنقد، وأن يقفوا على الحياد فيعطوا لكل رأي أو فكرة حقها الكامل في المناقشة والتمحيص، وأن يزنوا كل فكرة بميزان يخلو من الغرض والتحيز وأن تقف الأفكار كلها امام عقولهم على قدم المساواة دون محاولة لتفضيل إحداها على الأخرى، وعندما ينحازون آخرا الامر لرأي أو فكرة فلابد ان يكون هذا الإنحياز مبنيا على تقدير موضوعي وعقلاني وعلمي بحت.
وتقتضي حرية المبدع فنانا أو أديبا أو عالما، ان يكون الإبداع وحده غايته بغض النظر عما يمكن أن يجنيه من وراء فنه أو علمه أو ادبه من مغانم وهذه المسألة تنبه إليها الفلاسفة منذ أقدم العهود، إذ ان افلاطون قسم البشر إلى محبي الكسب كالتجار والصناع، ومحبي الشهرة كالحكام والسياسيين او القواد العسكريين، ومحبي العلم والمعرفة وهم العلماء والفلاسفة، وفي رأيه أن من ينتمي إلى الفئة الأخيرة لا يمكن أن ينتمي إلى الفئتين الأخريين وبخاصة الأولى منها، ومنذ ذلك الحين أصبح من الأمور المعترف بها لذة العلم والوصول إلى الحقيقة تفوق أي لذة أخرى، وتجعل صاحبها زاهدا في تلك الأهداف الدنيوية الصغيرة لتي يستميت الناس العاديون من أجل تحقيقها كهدف الربح المادي.
ومحال ان يكون الهدف المحرك للعمل الإبداعي هو الرغبة في تكديس الأموال، ومن يسعى الى الكسب المادي وحده ومن استعبدته المادة هو شخص لا تسري في عروقه روح الإبداع، والمبدع أيا كان مجال إبداعه لا يطلب المال لذاته ولا يجد متعة الحقيقية فيه وفي تكديسه.

المراجع والمصادر:
• إدوارد دي بونو : التفكير الإبداعي ، ترجمة خليل الجيوسي ، الطبعة الثانية، منشورات المجتمع الثقافي ، الإمارات العربية المتحدة ، 1997
• د.حسن إبراهيم عبد العالي، التربية وصناعة الإبداع، الطبعة الأولى، دار الصحابة للتراث بطنطا، مصر 2004
• كتابات معاصرة: فنون وعلوم (مجلّة الإبداع والعلوم الإنسانيَّة)، العــــــ80ـــــدد، المجلّد 20، بيروت، أيار –حيزران 2011
• دكتور جميل حمداوي، من مستجدات التربيَّة الحديثة والمعاصرة، منشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم:23، الطبعة الأولى سنة 2008.

(*) باحث في مجال الطفولة والشباب

اترك رد