العقل في التاريخ والتاريخ في العقل؟؟؟ ح 1

بقلم: د. محمد وراضي

    ماذا يقول الواقع عن العقل؟ وماذا يقول عن التاريخ؟؟ هل من تناقض بين هذين المفهومين؟ أم إن أحدهما يكمل الآخر؟ من منهما المعطي ومن منهما الآخذ؟ وهل للإنسان استغناء عن أحدهما؟ أم إن الربط بينهما لا مناص منه؟

    لنسلم جدلا بأن العقل متقدم على التاريخ، وأن التاريخ آت من مزاولة العقل لوظيفتيه: وظيفته الأولى هي التفكير والتأمل؟ إنه – إن شئنا نتيجة واقعية محسومة لتجارب متراكمة، بينما وظيفته الثانية تعني الحصول على صور ذهنية، تقتضي فترات زمنية. هذه الفترات على مستوى التاريخ العام صعب تحديدها، إنها لم تخضع بعد، ولآلاف السنين لعملية التأريخ، مما يعني أن هذ العملية متأخرة عن الأحداث الإنسانية التي تقدمتها في الزمن.

   فإن صح أن الزمن حركة في المكان، بلغة الفلاسفة، وصح أن المكان محدث بعد أن كان في العدم، وهما معا من باب مسلمات الدين والعقل كما هو بين. والعلوم الوضعية المتقدمة بالتدريج، صح عندها أن الحديث عن اللازمن مغامرة فلسفية، وشطح صوفي حينما يتحدث غلاة مسمى الإشراق عن “الأحدية”. يقصدون مدلول قول الغزالي: “كان الله ولا شيء معه”، مما يعني أن الله خارج إطاري الزمان والمكان، وهو ما عبر عنه المتكلمون من معتزلة وأشاعرة، ومن غير هذين الفريقين، وكأنهم جميعهم يصرحون علنا بأن مدركاتنا مؤطرة واقعيا بالإطارين المذكورين قبله .

    ولا غرابة أن يترجم إلى توضيحات موضوعية قوله تعالى: “ما فرطنا في الكتاب من شيء”! فيكون من جملة مفاهيم هذه الآية، تنصيص صريح مباشر على كيفية اتصال الإنسان بالعالم الخارجي فور ولادته، إنما دون وعي منه بهوية المدركات. هذه التي سوف يتم له اكتشافها بالتدريج. ففي القرآن الكريم: “وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة”.

    فالطفل عمليا، وكما نلاحظ، يوظف أول ما يوظف حاستي اللمس والذوق، المرتبطتين بإشباع دافع الجوع والعطش، ثم حاسة السمع فحاسة البصر فالشم. دون أن يتجاوز مرحلة مجرد الإحساس إلى الإدراك الحسي، فالإدراك العقلي بعد حين من نموه الطبيعي. يعني أن التقدم في كسب المعارف، إنما يتم بالتدريج لا بالطفرة، وكأنه يولد متعلما عارفا بالفطرة. وهذا ما أكد عليه عالم من علماء النفس في قوله: “الطفل يحس ولا يدرك”. بحيث إنه يؤكد دون علم منه قول رسول الله: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”. وبحيث تتأكد لدينا صحة هذه العبارة السائرة “الطفولة البشرية”. مما يعني أن سن البلوغ أو سن الرشد متأخر باستمرار لدى أي إنسان، وبحيث يلزم القبول بتأخر التعقل أو العقل، وأن هذا العقل في التاريخ بالضرورة، لكن التاريخ أيضا في العقل كما سنوضح.

    وهذه النظرية كيف يتم لنا تفسيرها على الصعيد المادي والمعنوي؟ في العصور البدائبة الأولى، وجد الإنسان نفسه في الطبيعة، وجها لوجه أمام مختلف ظواهرها المألوفة والفجائية: حرارة وبرودة، وعواصف وأمطار ورعود، وليالي طوال وقصار، وفصول غير متجانسة، ووديان وجبال، وتلال ووهاد وسهول، ومواسم خضر، وأخرى يابسات. ولما كان لا بد من إشباع دافع الجوع، فيلزم العمل للحصول على ما يتم الاقتتات به. والعمل نتصوره شاقا لنذرة الوسائل التي بسبب تأخر النظج العقلي في إيجادها. فيكون من باب المنطق أن نقف على أكثر من إجابة لأسئلة يدلنا مجرد طرحها على السبل الوعرة التي أدت بالإنسان الأول إلى ابتكارات، تمثل عندنا سلفيات ضرورية، لولاها ما انتهينا إلى ما نحن عليه من تقدم لا نقدر قيمته حق قدرها.

   كيفيات تمكن الإنسان من ضمان مصادر قوته. متى شرع في الزراعة؟ وفي بناء مسكنه؟ وكيف تحاشى التعرض لشدة البرد أو القرة؟ وكيف تحاشى الاكتواء بالرمضاء في فصول الصيف؟ وكيف جاءته فكرة ابتكار الأدوات التي بها يهيء طعامه؟ وكيف اهتدى إلى الاستفادة صحيا من الخضر؟ وكيف تم له زرعها ومعرفة أوقات هذا الزرع؟ وكيف اهتدى إلى صنع ملابسه؟ وصنع فراشه؟ وإن كان يقطن المغارات، فكيف تخلص من مخاطرها إلى السكن في أماكن هيأها بنفسه؟ وكيف تمكن من مواجهة الطبيعة على العموم؟ وهل يأتي وقت يصبح فيه سيدا عليها كما قال ديكارت في مقولة مشهورة له؟ أو لا يبدو أن مختلف تجاربه قد قادته إلى التفكير والتعقل والإقدام على مختلف الابتكارات.

اترك رد