الفكر النظري للغرب الإسلامي وأثره في عقل المحاماة المغربي

بقلم: حسن حلحول (*) 

الجزء الاول:

الفكر النظري للغرب الإسلامي

وأثره في عقل المحاماة المغربي

الجزء الثاني القادم،:

-الفكر النظري المشرق الإسلامي

وأثره في عقل المحاماة المشرقي.

إن العنوان قد يخلق الفضول لدى القارىء بطرح سؤال ما هي علاقة الفكر النظري بالمحاماة؟ وهذا السؤال سيجد الجواب عنه في أسفل المقال .

لقد سبق لي في إحدى المقالات أن تطرقنا فيها إلى مسألة جوهرية وهي أن العقل المهني للمحاماة المغربي، لا يماثل العقل المهني للمحاماة المشرقي، و استندنا في ذلك على المقاربة التاريخية، والعناصر التكوينية لبنية العقلين.

وفي هذا الجزء سنقوم بالبحث في المؤثرات الأساسية في عقل المحاماة المغربي، هل الفكر النظري المغربي المتمثل في الفلسفة المغربية له تأثير جوهري في عقل المحاماة المغربي؟ وهل بنية تكوين عقل المحاماة جزء لا يتجزأ من العقلانية الأمازيغية المغربية؟ وكيف تأثر عقل المحاماة المغربي بالنزعة العقلانية؟.

من خلال وصف وجيز ودقيق جدا للفكر النظري المغربي، يتبين أنه يتميز بخاصية أساسية وهي العقلانية ، إذ يميل أكثر إلى استعمال العقل في النظر إلى الظواهر الإنسانية و الاجتماعية والطبيعية، كما تغلب العقل وترجيحه على كل ما هو ميتافيزيقي .

التومرتية وبداية النهضة

يمكن القول أن بداية النهضة الأوربية منطلقها وبدايتها من الأندلس، فإذا كان ابن تومرت يعد في نظري ظاهرة بفكره

الثاقب،وتمكنه بكل المذاهب،ومنهجه التوحيدي والتوفيقي بين المذاهب، فلقد كانت لديه منهجية خاصة به استطاع أن ينفرد بها في كل العالم الإسلامي وذلك يرجع إلى كون العقل المغربي تاريخيا لا يعرف السكون والجمود، وكان دائما يثور على كل ما يمثل السكون والجمود الفكري أو العقائدي ،الذي يقف حائلا بين الاجتهاد والتطور العقلي، ففي الوقت الذي نجد ابن تومرت يأخذ بالمذهب المالكي،نجده ايضا يشهر سيفه لمحاربة فقهاء المالكية علما ان مكانة المذهب المالكي عند المغاربة مقدسة ،وهذا الهجوم على المالكية ورفضها علانية في خطبه جرأة اكتسبها من تمكنه بالمذاهب أخرى،فلم نجد فقهاء في المغرب سبقوه يهاجمون المذهب المالكي في ثوابته، وينتقدونه من داخل المنظومة المالكية ذاتها سيرا على منوال ابن حزم ،فكان يعتبر مذهبا قائم الذات متجاوزا المالكية ، فقد كان يرى أنه يجب أن يعيد النظر فيها وتجديدها ، وعلى المستوى النظري كان يميل ويرجح مذهب ابن حزم الذي يأخذ بالظاهرية أي الرجوع إلى الأصول دون وساطة ، في الوقت الذي نجد فيه ابن حزم يكن العداء الشديد للمبادئ التي تؤسس العقيدة السنية ويرفض الأسس المعرفية التي يقوم عليها الفكر الشيعي الإمامة والمهدوية التي يؤمن بها أشد ما يؤمن ابن تومرت ، فإذا كان يلاحظ عليه أن نسقه الفكري، وتوجهه التنظري، استعمل المنهج التمزيجي بين ما ينكره مذهب عن الآخر، الذي كان يصل الاختلاف بين المذاهب التي أخذ بها وتبناها إلى حد تكفير مذهب للآخر، وهذا المنهج التوحيدي الذي أخذ به ابن تومرت جعله متميزا عن الآخرين وكسب لنفسه قوة البرهان العقلي والإقناع، وقد يرجع قبوله لهذا النسق الفكري الجديد إلى جذور تكوين العقل المغربي المبني على العقلانية النقدية.

إن ما يميز ابن تومرت عن غيره هو أنه أطلق العنان لعقله ولم يقيده، وكان يسبح في بحر كل المذاهب بدون إبراز العداء لاي مذهب، فكان همه هو الإحاطة ما أمكن بفروع وأصول كل مذهب، وإنه كان ينهل منها جميعها إيمانا منه لما للعلم من اهمية ودرجة عالية في حياة الإنسان، ويظهر هذا من خلال عنوان مؤلفه المشهور ” أعز ما يطلب ” المقصود به هو أعز ما في حياة الإنسان هو طلب العلم .وقد يرجع الفضل في التنوع الفكري الذي اكتسبه ابن تومرت الى سفره الى قرطبة لطلب العلم، ثم إلى العراق،حيث لبث في هذا البلد زمنا غير يسير، التقى فيها بأبي حامد الغزالي وتتلمذ على يده، بل يحكى أن هذا الأخير رفع يديه ودع له بالنصرة والقضاء على الدولة المرابطية التي قامت بإحراق كتابه إحياء علوم الدين،وتزامن تواجده في العراق بسمة ضعف السلطة العباسية، وصعود حكم السلاجقة الذي عرف العلم والعلوم ازدهارا كبيرا في عهد نظام الملك الذي كان شغوفا بالاشتغال والاهتمام بالعلم والعلماء.

إن إبن تومرت يظهر أنه كانت له شخصية قوية وعنيدة عناد المصموديين، ومن تجليات هذه الشخصية أنه خالف استاذه الغزالي في كثير من المبادئ الأساسية،ومن بينها نزوع التلميذ إلى نزعة التحرر العقلي،فنجده خالف الغزالي في نزعته الصوفية التي تعتبر أساسية في حياته، إذ السمة العامة للفكر المهدي تنبني على أسس العقل ولا يؤمن بالمعرفة لا تجعل العقل وهو الأصل.كما خالف إبن تومرت استاذه في كون نشر علم العقيدة بين عامة الناس من الأمور الضرورية لإنجاح مشروعه السياسي،في الوقت كان الغزالي ينفي عرض كل ما هو عقائدي باعتبار مجال التأويل فيه واسع ورحب وهو من اختصاص الخاصة ولا يتعداها إلى العامة.ومن المسائل الجوهرية الخلافية بين الرجلين موضوع الإمامة والمهدية والعاصمة.

ويمكن القول أن عقلانية ابن تومرت يرجع لها الفضل في ترسيخ العقيدة الأشعرية بأهل المغرب ،فيكون بذلك أول من جعل هذا المذهب له أهميته في الحياة الدينية للمغاربة.

فالمغرب لم يكن قبل رجوع ابن تومرت من المشرق يعتنقون مذهب الأشعري كعقيدة، وإن كان حسب الدكتور عبد المجيد النجار أنه لم يكن أشعريا خالصا في تفكيره العقدي، إلا أنه كان موحدا لله حسب مبادئ علم التوحيد عند الأشعرية ويظهر ذلك من خلال رسالته “المرشدة ” التى كتبها ابن تومرت وكانت واسعة الانتشار، ومعتزليا فكريا بأخذه ……كما كان لها الأثر البالغ في تحويل العقدي في المغرب من تصور سلفي إلى تصور يقوم على التأويل .ولقد استهل المرشدة العلم بالله وسميت بالمرشدة لأنه افتتحها بعبارة (إعلم أرشدنا الله وإياك…) وهي تخوض في الأمر العقائدية وموجهة الى الخاصة والى العامة.

فابن تومرت كان له دور كبير في بناء

الفلسفة العقلانية النقدية والعقلانية المغربية.

إن الثابت عندنا هو أن الأسس العقلانية للعقل المهني للمحاماة في المغرب، قطعا تجد جذورها الجذرية في فلسفة ابن باجة وابن طفيل وابن رشد، بيد أن لابد قبل الخوض إلى هؤلاء فلاسفة المغرب الكبار الذين وضعوا الأسس المعرفية المبنية على العقلانية للمجتمع المغربي ، على خلاف المجتمع المشرقي. يلزم التعرض إلى ظاهرية ابن حزم لما لها من الناحية الابستمولوجية من أهمية كبيرة في إبراز الأسس المعرفية التي قامت عليها المدرسة المشرقية، وخصوصا ما يتعلق بنقد علم الكلام والفقهاء الذين استعملوا آليات الاستدلال والقياس الشاهد على الغائب والاستقراء، ويرى أنور الزعبي في مؤلفه ” ظاهرية ابن حزم الأندلسي أن “الاستقراء المذموم إذا ، لا يعدو كونه (حيلة) يأخذها بعضهم حين سماه ” قياسا” وهو ينقل من وحدة الحكم في الصفات المشتركة ،إلى وحدته في الصفات غير المشتركة”

إن ابن حزم استطاع أن ينفرد في زمانه الأندلسي بخلق مدرسة نقدية مبنية على العقل والحس، وتميزت منهجيته كما قال محمد عابد الجابري في مؤلفه “نقد بنية العقل العربي” لحظة جديدة في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية”

ابن باجة فيلسوف العلم والعقلانية.

مهد لظهور الفلسفة في الأندلس والمغرب ،الاهتمام البالغ بالطب ،والرياضيات، والمنطق والهندسة، والكيمياء في أواسط القرن الرابع،وكان إمام هذه العلوم هو أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل قرطبة ، كما لمع اسم أبو مروان عبد الملك بن زهر في الطب.

وكانت إرهاصاتها قد بزغت مع ابن حزم كما سلف ذكره، في هذا الجو العلمي برز نبوغ أول فيلسوف أندلسي، وهو أبو بكر محمد بن يحيى بن باجة، المعروف بابن الصائغ، ولد 445 هجرية وتوفي 533 ) وكان بحرا في العلوم الطبيعية والرياضيات ،كما كتب شروحا على أرسطو.

ولقد بين لنا ابن طفيل في مدخل مؤلفه ” حي بن يقظان” أهمية فلسفة العلم…لابن باجة بقوله (إن من نشأ بالأندلس من أهل الفطرة الفائقة ، قبل شيوع علم المنطق والفلسفة فيها ، قطعوا أعمارهم بعلوم التعاليم (الرياضيات) وبلغوا فيها مبلغا رفيعا ولم يقدروا على أكثر من ذلك.ثم خلف من بعدهم خلف زادوا عليهم من علم المنطق ، فنظروا فيه ولم إلى حقيقة الكمال … ثم خلف من بعدهم خلف آخر أحدق منهم نظرا وأقرب إلى الحقيقة .ولم يكن فيهم أثقب ذهنا ولا اصح نظرا ولا أصدق رؤية من أبي بكر الصائغ (ابن باجة)…) ويرى الدكتور محمد عابد الجابري أن الفلسفة العلمية البرهانية جاءت كتتويج لمرحلتين من تطور الفكر العلمي في الأندلس، مرحلة الرياضيات ومرحلة المنطق والرياضيات ، ثم ظهرت الفلسفة كنتاج للفكر العلمي الذي ساد الأندلس والمغرب بمعنى أن ما يستنبط من ذلك أن ظروف ظهور الفلسفة في المغرب عقلانية محضة مبنية على النزعة البرهانية.

ويقول في هذا الصدد الدكتور محمد عابد الجابري في مؤلفه ” التراث والحداثة ” ما يلي وهي تلخص المدرسة البرهانية التي بنت عليه الفلسفة في الأندلس والمغرب ( وهذا الفصل الذي يقيمه ابن باجة بين الأقاويل السوفسطائية والجدلية ومنها اقاويل المتكلمين في الإسلام، وبين الأقاويل البرهانية التي تعتمد البرهان فتبحث في الأسباب الطبيعية بهدف بناء العلم الطبيعي ، يسجل مرحلة جديدة بالغة الأهمية في تاريخ الثقافة العربية. إنها

بداية المدرسة البرهانية التي طبعت بطابعها التفكير العلمي والفلسفي في الأندلس والتي بلغت تمام نضجها مع الفيلسوف قرطبة …).إن ابن باجة من بين الأعمال الرائعة التي قام بها ميزت الفلسفة في الأندلس والمغرب والفلسفة في المشرق هو الفصل بين الأقاويل التي يقصد بها الإقناع المخاطب برأي معين بغض النظر ما أذا كان هذا الرأي صحيحا أو غير صحيح، وبين الأقاويل التي تعتمد على تقديم العلل والأسباب الموضوعية .

فالطرف الأول يستند على آليات التأثير على المتلقي من خلال تقديم المغالطات والخطابة والجدل العقيم .

فالطرف الأخرى يعتمد البرهان يتوخى منه إبراز الحقيقة وليس نفي الحقيقة .

إن الفلسفة المشرقية انتعشت في مجال ديني محض “وسيأتي التطرق لها والتوسيع في هذه النقطة في الجزء القادم تحت عنوان الفكر النظري للمشرق الإسلامي وأثره في عقل المحاماة ” على خلاف الفلسفة في الأندلس والمغرب، فهذه الأخيرة نجدها انطلقت انطلاقة جديدة تأسست على العلم، وعلى الرياضيات والمنطق، مما جعلها فلسفة علمية. وهذا النوع من الفلسفة العقلانية العلمية تأثرت في بنية عقل المجتمع المغربي.

ابن طفيل الطبيب والفيلسوف العقلاني .

قبل تطرق أين تتمثل عقلانية فلسفة ابن طفيل، لنرى أولا موقف الاخباريين والمتصوفة في الأندلس والمغرب من الفلسفة، فقد حوربت الفلسفة محاربة شديدة كما شدد الخناق على علم الكلام، الذي انتقل من المشرق إلى الأندلس والمغرب، فإذا كانت الأجواء العامة للمنع، تحكمها أسباب ايديولوجية الدولة الأموية ثم الدولة المرابطية ، فإن إيجابيات هذا المنع والحظر الذي مورس على الفلسفة وعلم الكلام في الأندلس والمغرب أكثر من سلبياتها لقوله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ،وهذا الكره لمنع الفلسفة جعل المغرب ان يكون مميزا، عندما توجه الفلاسفة قبل الخوض فيها الى الاهتمام بالعلوم العقلية والبرهانية المتمثلة في علوم التعاليم (الرياضيات )والطب والمنطق التي تشبعوا بها، فكان أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن طفيل الأندلسي القرطبي ولادته غير مضبوطة 506 وتوفي 581 هجرية بارعا ذاع صيته في علم الطب كما كان يتقن اتقانا العلوم والرياضيات، ولم يبق من مؤلفات هذا الفيلسوف العقلاني سوى رسالته ” حي ابن يقظان” التي ترجمت إلى الإسبانية والفرنسية والإنجليزية والألمانية وغيرها من اللغات الأخرى .

يظهر من خلال الفلسفة العقلانية البرهانية لابن طفيل أنها جاءت كنتاج لتطور الفكري العلمي، أي أنها جاءت مبنية على أرضية العلوم الطبيعية والرياضيات التطبيقية والتشريح الطبي ، يختلف جذريا عن النسق الذي ظهرت فيه الفلسفة في المشرق.التي جاءت مبنية على أرضية علم الكلام، الذي جعل منه الفلاسفة المشرق قاعدة أساسية لبناء النسق الفلسفة المشرقية.

لقد كان المنع الذي طال تدريس الفلسفة وعلم الكلام في الأندلس والمغرب أو الخوض فيهما، فضل كبير على المغاربة جعلهم متميزين، بالعقل والاهتمام به بالدرجة الأولى.

الروح الرشدية عقلانية نقدية .

أستهل الكلام بمقولة الفيلسوف لبيترو بومبو نازي عن ابن رشد (1198/1126م )وأهمية فلسفته العقلانية من خلال ازعاجه للفكر الغربي واقلاقه له ،وهي ” ليقل الناس ما شاؤوا، إني أكره رأي ابن رشد أكثر مما أكره الشيطان”

إن فلسفة ابن رشد هي أساس تنوير العقل الغربي الذي كان يعيش في ظلام دامس، إذ بفضلها استطاع أن يتخلص هذا الأخير من الفكر اللاهوتي الذي كان مسيطرا على عقول الناس، فهو فيلسوف صاحب المذهب العقلي، ذو النزعة العقلانية النقدية، الذي استطاع أن يربط ارتباطا وطيدا بالأسباب والمسببات، والإيمان بالسببية أساس العلم الطبيعي ،وأساس الفلسفة العقلية ، ولهذا نجد ابن رشد يهاجم الاشاعرة الذين يرفضون العلاقة السببية بين الأشياء ومسبباتها، كما انتقد الغزالي انتقادا لاذعا في مؤلفه تهافت التهافت ،لأن الغزالي حاول أن يهدم الارتباط الضروري بين الأسباب والمسببات لكي يصل إلى غايته التى يطمح إليها وهي فسح المجال للقدرة الإلهية، بحيث رد عليه ابن رشد في كتاب التهافت قائلا” أما إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تشاهد في المحسوسات فقول سفسطائي ، والمتكلم بذلك إما جاحد بلسانه لما في جنانه ،وإما منقاد لشبهة سفسطائية عرضت له في ذلك…” ثم رد الأسباب إلى العلل الأربع التي قالها أرسطو وهي ” المادية والصورية والفاعلة والغائية. إلى أن قال ” فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ودفع له”.

وعقلانية ابن رشد تقوم على تفسير الدين تفسيرا عقليا معتمدا في ذلك على القرٱن . فهو يرى في ” فصل المقال بين الحكمة والشريعة ” أن معرفة الصانع لا تكون إلا بالنظر في الكائنات التي خلق الله الاستدلال العقلي منها على وجود الصانع ، ولقد ساق الله في كتابه الحكيم دليلين لخصهما ابن رشد في دليل العناية ودليل الاختراع. فالٱيات التي تدل على الاختراع مثل ” إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له…” ومن الٱيات الدالة على العناية قوله تعالى ” ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا..”

ولقد لخص ابن رشد موقفه من الغزالي ومن فلسفة ابن سينا ومنهجها في عرض ٱراء الفلاسفة قائلا ” وانت ايها القارىء يجب أن تفهم أنه متى جردت أقاويل الفلاسفة من الصنائع البرهانية عادت أقاويل جدلية ، ولا بد أن تكون منكرة غريبة إن لم تكن مشهورة …ولذلك ما نرى أن ما فعل ابو حامد من نقل مذاهب الفلاسفة في هذا الكتاب (تهافت الفلاسفة ) وسائر كتبه… ويضيف قائلا ” فالذي صنع -الغزالي – من هذا ، الشر عليه أغلب من الخير في حق الحق. ولذلك علم الله ، ما كنت أنقل في هذه الأشياء قولا من أقاويل ولا أستجيز ذلك لولا الشر اللاحق بالحكمة . وأعني حكمة النظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان”. كتاب ابن رشد تفسير ما بعد الطبيعة “

إن هذه الطبيعة البرهانية المبنية عند ابن رشد على العقل البشري ،التي يقتضي بناء نسقها على مقدمات يقينية والنظر فيها يلزم عنها لزوما نتائج ضرورية يربطها ربطا وثيقا المسببات بأسبابها. فبدون الرجوع الى العلم الطبيعي لن يتأتى استيعاب العلم الإلهي كما يرى أرسطو، وبالتالي غير ممكن بناء القول الفلسفي على البرهان العقلي .

فالعقل عند ابن رشد ليس شيئا أكثر من إدراك الأسباب ، الفرق بين العقل الإنساني والعقل الإلهي كالفرق بين الأعلى والادنى , أي بين الملقي والمتلقي. وباعتبار أن العقل الإنساني هو تابع لما يدركه من الموجودات، فإنه ناقص لا يمكن إدراك جميع الموجودات ، أما العقل الإلهي فإنه لا يعقل الا نفسه ومن ثمة يعقل جميع الموجودات.

إن العلاقة المتناقضة التى أقامها الغرب اللاتيني مع المفكر الأندلسي ابن رشد والتي وصلت شروحه الفلسفية وتلاخصه لكتب أرسطو إلى باريس ومن ثم إلى أوروبا بأكملها، ولقد كان له الفضل في فهم أرسطو فهما حقيقيا لكتبه الصعبة في الفيزيقا (السماع الطبيعي) والميتافيزيقا ( ما بعد الطبيعة) ،وعدت شروحه لمذهب أرسطو في العقل فضيحة ووجد شبه إجماع على رفضه بقوة ،وقاد هذه العلاقة العدوانية اللاهوتي “توماس الأكويني” وقد وجه له انتقادات شديدة اللهجة في مؤلفه ” وحدة العقل ” الصادر عام 1270م بخصوص عقل الإنسان قوة مفارقة للأفراد ،وانه واحد لكل الجنس البشري.

بيد أن هذه الانتقادات لابن رشد لم تنل منه بل لم تزده إلا قوة وانتشارا ،فاذا كان كافرا وعبثي في نظر الأكويني فلما لم تضمحل نظرية وحدة النفس؟ ، ولما بقي فكر ابن رشد شامخا يستشهد به في” مدينة أوتريخت ” من أجل محاربة ديكارت وكذا من أجل مجابهة” كانط”.

إن عقلانية ابن رشد إذا كان الغرب اللاتيني تأثر به كثيرا .وبنى عقله على هذه العقلانية التي استطاعت أن تحقق تطورا ملحوظا في جميع مناحي الحياة، وتجعل الغرب اللاتيني مركز الحضارة الإنسانية الٱن.

فإنه من باب تحصيل الحاصل أن يكون الغرب الإسلامي تأثر بعقلانية ابن رشد خصوصا وأن التعامل مع نصوصه كان بشكل كبير على مستوى النظري مثل تعامل الغرب مع نصوصه أو أكثرفي الوقت لا نجد الشرق الإسلامي يبالي بفلسفة ابن رشد لسبب اولاخر، غير أن ما حال دون خلق نهضة شاملة في المغرب هو حرق كتب ابن رشد ومحاربة فكره بشكل لا مثيل له هذا فضلا على فقدان الاندلس وانحطاط الدولة الموحدية،ويمكن القول أن هذه العقلانية التي جبل وطبع بها العقل المغربي ،جعلته يتميز عن المشرق الإسلامي .

العقلانية النقدية الواقعية لعقل المحاماة بالمغرب.

قد يتبادر إلى ذهن القارىء سؤالا مركزيا وهو ما علاقة الفكر النظري بعقل المحاماة ؟ وهل هي علاقة محايثة أم هي علاقة متباعدة؟ قطعا أن هذا السؤال له أهميته من الناحية المعرفية للبحث في هذه العلاقة وجذورها بناءاً على المقاربة التاريخية والتكوينية للعقل المغربي عامة.

إن علاقة الفكر النظري بعقل المحاماة ،هي كالعلاقة الرابطة بين الخاص بالعام الذي يكون فيها الخاص تحت العام ،وبين الفرع بالأصل الذي يكون فيها الفرع منضوي في الأصل ، والجزء بالكل ،الذي لا يكون فيه الجزء إلا ضمن الكل.

ولكي نفهم هذه العلاقة ونفسرها تفسيرا علميا، فإنني أرى تطبيق المنهج الاكسيومي كٱلية من ٱليات تقريب فهم هذه العلاقة بدون أي لبس. ويعني ذلك الحرص التام على النظر إلى الأجزاء من خلال الكل الذي تنتمي إليها هذه الأجزاء الاجتماعية لوجود علاقة وطيدة بينهما، وهكذا فعندما ننظر إلى عقلانية المغاربة ،لا كأجزاء منفصلة وموضوعات متباعدة، بل كمنظومة متصلة ومتكاملة، فعقل المحاماة فهو جزأ لا يتجزأ من المنظومة الفكر النظري المغربي وصيرورته التاريخية، المبني على العقل في النظر إلى الأشياء والاهتمام بكل ما هو برهاني يعتمد على المنطق الصوري، فلا يمكن فهم عقل المحاماة إلا من داخل هذه المنظومة الفكرية باعتبار بنية عقل المحاماة يستمد عقلانيته من النظر الفكري المغربي.

إن المحامين المغاربة يختلفون عن غيرهم في المشرق، وهذا الاختلاف يتجلى في المنهج والممارسة الذي له جذور تاريخية وتكوينية للمجتمع المغربي، فعقلانية المحامين المغاربة جزء لا يتجزأ من الكل، فالمجتمع المغربي الذي تم تأطيره عبر التاريخ من قبل مفكرين وفلاسفة يؤمنون بالعقل المحض، مع الأخذ بالاعتبار بشكل عال واحترام تام للجانب الديني في مهنة المحاماة، مع الفصل التام لكل ما هو مهني للمحاماة وبما هو ديني عقائدي.

لقد كان لفلاسفة المغاربة دور كبير في تكوين عقل المحاماة وعقلانيتها التي يتميز بها،وخاصة فلسفة ابن رشد التي أسست على العقل، وهذا النوع من الفكر له امتداد بشك أو بٱخرإلى اليوم، ومن تجليات هذا التأثير ما نشاهده ونلمسه في الممارسة المهنية بالمغرب وكيفية التعاطي مع القضايا المجتمعية للشعب المغربي، ومع القضايا العربية الدينية والسياسية، والنظر إليها من أجل اتخاذ مواقف عقلانية بعيدة كل البعد عن التأثير الديني والطائفي اللذين يؤثران بشكل لافت للنظر في المحاماة بالمشرق.

إن الفصل في الحياة العملية للعقل المهني للمحاماة المغاربي اساسه المنهج والفكر النظري المغربي، الذي يختلف هذا الاخير بدوره عن الفكر النظري المشرقي، وحتى يتسنى للمهنة الحفاظ على استقلاليتها وهويتها التي لها خصوصياتها، يلزم رسم المعالم والحدود بينها وبين الدين ، وتعيين مجال لكل واحد منهما.

إن عقلانية عقل المحاماة المغربي يلاحظ من خلال ممارسة المهنة في رحاب المحاكم، فالمرافعات المغاربة نجدها مباشرة ووجيهة لا إطناب ولا انشاء فيها ولا يغلب عليها الطابع الديني، بل تحاول تناول القضية بالتحليل العقلي بمعنى واحد زائد واحد يساوي اثنين. وهذا راجع إلى مؤثرين المؤثر ذاتي والمؤثرموضوعية.

اولا ،:المؤثرات الذاتية :ترجع إلى أن مهنة المحاماة بالشكل الحديث قدعرفت في الأقطار المغاربية باعتبار أن الجزائر استعمرت من قبل فرنسا 1830 قبل أن تستعمل باقي الدول العربية ، وكانت تمارس فيها المحاماة بشكلها العصري ومنظمة بالقانون، وبالتالي فإن ما يستفاد من هذا أن عقل المحاماة المغاربي كانت أكثرتنظيما انضباطا من الناحية القانوني ،جعلت ذاتياته تفكر بنوع من الاستقلالية عن السلطة.

ثانيا ،: المؤثرات الموضوعية :ترجع إلى الارتباط عقل المحاماة المغربي باللغة الفرنكوفونية، وهذا الامتداد اللغوي والثقافي الشديد جعلت تفكيره يمتاز بنوع من الاستقلالية والعقلانية ، باعتبار أن هذه المهنة لم تكن يمتهنها إلا من كان له الحظ من نهل من الثقافة الأوروبية ،خصوصا وأنه في البداية كانت اللغة الأساسية لممارسة مهنة المحاماة يتم باللغة الفرنسية أو الإسبانية.

إن المؤثر الموضوعي المتمثل في استعمال اللغة غير اللغة العربية له أهميته ، بحيث لم يتم معربة القضاء إلا بتاريخ 26/يناير 1965 مع ظهير التوحيد والتعريب والمغربة,هذا جعل عقل المحاماة المغربي ذات النزعة العقلانية أكثر من غيرهم من عقل المحاماة العرب.

إن جذور وتكوين عقلانية المحامين بالمغرب،يرجع إلى اختلاف مكونات المجتمع المغربي، وتنوعه الثقافي الأمازيغي الذي عرف الاختلاط منذ القدم مع الشعوب الأوروبية، وكان هذا المكون الأساسي بدوره يتبنى الفكر النظري الأمازيغي المبني على العقل يقوده مجموعة من الفلاسفة لا يسع المجال هنا لذكرهم.

ومن خلال هذا النسق العقلاني للمجتمع المغرب ، والعلاقة السببية التي تجمع بين جميع الحقول الابستمولوجية والبعيدة كل البعد عن الفكر الميثولوجي الذي يعتمد على الميتافيزيقية ،لا يمكن إلا أن ينتج العقلانية للمحامين المغاربة.

يتبع بالجزء الثاني

(*)  محام بهيئة الرباط

اترك رد