الملاذات الآثمة في “ضحكات الكركي” لعبدالجواد العوفير

بالواضح - رشيد ازروال

قال صياد أفغاني “أحب طائر الكركي لأنه لن يبقى صامتا…”، شغف سلالة الصيادين في شمال كابول بالكركي لايضاهي شغف هذا الطائر بحياته، انه عصي على الإمساك لذا غالبا مايسقط بالرصاص إلا من قلة من السلالة الصيادة التي تمسك به حيا، وليس سهلا تحقيق ذلك.

الاحتفاء بهذا الطائر الجميل ليس من اجله فقط، بل من اجل الحياة المتاخمة لأقصى الأحلام والرؤى،

انه الطائر /الدلالة على جماليات هذه الحياة التي ترفرف في القلوب حية طازجة مثلما ترفرف في الأشياء والموجودات.ومثل الصياد النادر الذي يمسك بالطائر حيا يفعل الشاعر عبد الجواد العوفير في مجوعته الشعرية ” ضحكات الكركي’ ( دار التكوين.دمشق/  بيروت. 2015). إذ يمسك به حيا في حمولته الدلالية التي من خلالها يتلمس السياقات المفتوحة للمعنى، الذي يفهم بزوايا نظر متعددة، ليس مرغوبا أن نتفق على معنى بل الأهم أن نتذوق الجمال بثراء أحاسيس متنوعة تتموج في لذة النص.الجماليات أولى من الدلالات في القصيدة، إذا تعقبنا  المعنى وحده بددنا المتعة في مسافة التعقب “المعنوي”.

يضع عبد الجواد تصديرا من الشعر الصوفي لجلال الدين الرومي، قيه احتفاء بمقام الضحك الروحي، ضحك لا يشبه ضحكات الناس العادية، هو يشبه ضحكات الكركي الغامضة والموحية، من خلال هذا التصدير الموحي نفهم أن العنوان ” ضحكات الكركي” له مقامات دلالية  مغايرة عن المقامات الوجدانية الصوفية الخالصة كما هو نص الرومي.

في المجموعة الشعرية “ضحكات الكركي” ثمة كثافة مركزة في القصائد القصيرة، وثمة التماعات موحية تبرق ، ثم تستكين إلى النثر استكانة مخادعة إذ سرعان ما تبرق شعرا، في نص “اشراقات للوتريامون’ استدعاء لهذا الشاعر الفرنسي، استدعاء اشراقاته في تمثل عبد الجواد تمثلا شعريا خاصا، التمثلات تشترط الخصوصية حتى تتفرد في تصورات أصحابها، وإذا كان هؤلاء الأصحاب شعراء يكون الأمر له صلة بالمقروئية والرؤية التي خرج بها الشاعر من قراءة سلفه العالمي، من النص نقتطف التالي:

” هذا الضوء الماكر

في زاوية البار

هو من أنجبك  يالوتريامون

الضوء الذي نشعل فيه

سجائرنا بخفة، ونغيب” (7)

الضوء فكرة سطعت هكذا مترنحة من المخيلة في ركن من حانة، فكرة استدعاء لوتريامون كانت وليدة هذا الضوء الخافت في ركن هذا المكان  الدائخ بالمصابيح و الكؤوس. الأضواء الخافتة لطالما أيقظت الذكريات والمقروءات والسير الذاتية والغيرية وأيضا النساء والقصائد…،الضوء رحم الكتابة أنى كان هذا الضوء في بار أو تحت عمود كهرباء أو دوائر ضوئية مرسلة من الشمع أو تحت كرة الضوء الكبيرة التي تغذي النهارات ..الشمس هذه المخلوقة الهائلة.

الحنين إلى الأب حنين إلى الجذر، في نص ” عن أب منعزل بعيد’ يقرن الشاعر أباه بالعزلة، يتذكر جانبا من هيئته المميزة ‘ الطربوش الأحمر” ويتخيل التالي:

” طربوشك الأحمر

نمت فيه زهور الاوركيديا “

الأب كالبحر إذا وصل الهدير إلى المسامع وصل الصوت القديم الذي تحمله رياح الذاكرة/ الطفولة حيث الدهشة تقاسم الطفل الصغير وسادة الأحلام الدافئة، النوستاجيا تلدغ كلما أوغل التذكر في التفاصيل والجزئيات الموجعة، العزلة البعيدة ليست على هذه الأرض، هي عزلة الفقدان/ الموت.

الشعور بالبرد يجعلك تخاطبه، درجت ألسنة الفئات الشعبية العريضة في المغرب على التعبير عن شعورهم بالبرد بالقول ” ضربني البرد”، أما الشاعر فتنتابه الرغبة في ضيافة هذا البرد والترحاب به، كأنما يرحب بعزيز طرق بابه فجأة بلا استئذان:

” ليس لدي ما أقدمه أيها البرد

غير مرق البارحة

وشموعا للسهرة” (14)

لعبة الظلال في النص ذات مسحة غرائبية، في نص “شجرة عزلة في الغرفة”:

” على حائط حانة فارغة

ظلي يقلد ظل حمار وحشي

النادل يلهو بأصابعه

كي يروض الوحدة”.(21)

الوحدة القارسة التي تدفئء التخيلات، تظل حميمة أكثر من الخارج الضاج بالناس والأشياء والحركة:

“أباطرة

ومشنوقون

حراس ليال طويلة

ونساء بخلاخل يثرثرن كثيرا

أيتها الأفكار السيئة

أغلقي النوافذ”(21)

المسحة الاوديبية نجدها في نص ” انتحار أنيق’، التأنق قبل الموت الرمزي أو الواقعي، واقعية الموت لا تعلو عليها الميتافيزيقا أو أساطير الخلود الدنيوي بالتناسخ أو بغيره ، الموت هو مفارقة الروح للجسد، الموت موت، لكن ماالذي يجعل الرغبة في الأناقة استعدادا لهدا الموت / الانتحار؟ هل هو طقس احتفال؟ لا يعني الانتحار في أعراف بعض الشعراء والأدباء المنتحرين إلا نوع من الخلود الرمزي في ذاكرة الأحياء وفي كتب التاريخ الأدبي. الاوديبية ليست علاقة بفرويد، لاتستدعي تحليلا إكلينيكيا ، الادويبية هنا شجرة الأدب الوارفة التي تجمع أهل الكتابة الأدبية تحت ظلالها، لهذا يخاطب الروائية ” فيرجينيا وولف” مخاطبة الابن البار لأمه الحنون. نقرأ :

“(فيرجينيا وولف)

سأداعب خصلات شعرك مثل أم

سأنشد لك أغنية البحارة المتعبين” (28)

الرغبة انشداد إلى الطبيعة /الخارج، والى الطبيعة/ الداخل، هذه النفس البشرية المكتظة بالرغبات، وتكون نفس الشاعر مكتظة أكثر بخليط من الرغبة والتخيل الجمالي النابع من المكنون ، كما في حال نص “كعب عال”:

” أريد أن امرر يدي

على أشجار سرو

تنمو ببطئ في حوش الدار

وانظر إلى كعب امرأة عال” (31)

التحديق طويلا في النافذة / الشباك يجعل المحدق يصاب بفلسفة التأمل، وهي فلسفة النظر إلى ماذا يقع هناك في المسافة الواهية بين الهواء وإطارات النافذة ، هذه المسافة الهلامية بقدر ما هي ملموسة إذا تحركت الريح – سواء حملت بردا بين طياتها فهي تلمس، أو إذا حملت لفحة شديدة من الحرارة آتية من كرة اللهب / الشمس فهي تلمس- يكتب العوفير عن ” نافذة نطل على الغياب”:

” يا نافذتي المنمقة بستائر الستان

يا من تحملين رائحة امرأة غنوج

أحنو عليك، كما تحنو أم على العاصفة

وأخاف عليك من البرد

ومن سعال العزلة” (32)

باب الأحد مكان شهير وسط الرباط عاصمة المغرب، هو البوابة إلى المدينة العتيقة التي بناها الموريسكيون المطرودين من الأندلس، على هذا الباب صخب الباعة الجائلين ومحلات تجارية من كل صنف ولون وجحافل متسولين ومتسولات وسياح سمر وشقر ..الجميع هنا على باب الأحد يبحث عن غرضه، بينما الشاعر يرد صخب المساء إلى ضحكات الكركي التي تنبعث من مكان ما..كانت تنورة متسولة كافية لتخيل سعادة الكركي..، أحيانا يكون مصدر التخيل في العمل الشعري لقطة عابرة  في الأمكنة العامة تكون نواة لفكرة شعرية ممزوجة بالرغبة، والتفكير في دلالات متخيلة أو في تراكيب جمل غريبة تتزاحم في الذهن اللحظة إياها، من نص ” الكركي”:

” صحكات طائر الكركي

تمنح صخبا لباب الأحد، هذا المساء

تنورة المتسولة، كانت كافية

لتخيل طائر كركي سعيد ” (39)

الليل مادة للتأمل، لهذا كان تخيل طوله كقامة جندي ، ولك أن تتأمل حدته :

” كم هو حاد كشوكة

تنبت فيه عشبة النسيان ببطء” ( 41)

الليل يلسع كالشوكة تماما، متى غلفته الأحزان ، لهذا يصعب التخلص من الذكريات المؤلمة بسهولة، الليل لا يصلح للنسيان، هو يدفعك إلى التذكر، تذكر الآلام الماضية التي نعتقد أنها مضت إلى غير رجعة، هي تعود بكامل قسوتها إلى الخاطر ..تنغص علينا لحيظات الهناء القليلة.

ما السبيل إلى تفادي الأفكار المزعجة التي تهجم على البال في الليل، الجواب أن نتصالح مع الليل بالكتابة ، بالقراءة.. باقتراف الصفو الذهني.

في قصيدة ” سحب كثيرة هذا الصباح” ( 42-43)، تشذير مقطعي، فالنصوص/ الومضات متجاورة لكنها مستقلة بعوالمها الخاطفة كالبرق، مثلا إذا أخذنا الومضة الأولى :

“هذا الصباح تساقطت كلمات كثيرة

من جيب الشيخ

الكلمات التي أحبها ليفقدها”

و” كلمات كثيرة في يد المرأة التي تبيع الخبز

كل صباح ”  (42)

تتكرر مفردتي الكلمات واللغة، هو اشتغال شعري على اللغة وعلى الكلمة، هما التيمة / الثنائي، لهذا فالنص يبدو منسابا على شكل ومضات، لكنها ومضات خادعة، هي نسيج نص تدور رحاه حول الكلمات واللغة التي تشغل البال.كما إن تناصية تتسلل إلى هذا النسيج، نقرأ التالي:

” لغة يسميها بروتون

وهو يحبو على جسد امرأة ميتة:

( أصابعنا التي لم تتشابك أبدا)” (43)

استدعاء الشاعر السوريالي اندريه بروتون، عبر تضمين جملته الشعرية الموحية المتقاطعة الدلالة مع  نص العوفير” أصابعنا التي لم تتشابك أبدا”، يمنح النص ملمحا سورياليا ، هي اللغة في عرين جماعة  مفارقة للجماعات.

تجميل الحرب لا يكون إلا في الشعر، الحرب في مضمار ” سيد الكلام” تتجمل بقدر ما  يعتني بأناقتها صاحب صالون التجميل الشعري، لكنها حرب لا تشبه حروب الجيوش الآدمية في الميادين والبحار والأجواء، إنها حروب خاسرة تحدث كل يوم في التفاصيل الهامشية للحياة العادية، الحياة الاستهلاكية التي تضمر قلقا وجوديا يعاني منه الشاعر بوعيه الشقي، حروب طاحنة تدور رحاها النارية قي النفس الملتهبة بالمشاعر الحادة والمضطربة، النفس الحائرة التي تبحث عن ” خلاصها المؤقت” في البارات، في نص ” ما أجملك أيتها الحروب الخاسرة “:

” الهواء حزين ومتعب

في هذا البار الشاسع

ويوما ما سيكون في الليل

وحيدا

ولن يذكرنا

أبدا ” (49)

حاسة الالتقاط في نفس القصيدة تعثر على ” مدام بوفاري” بين يدي ..:

” الفتاة التي تقرأ ( مدام بوفاري)

في طاولة وحيدة “

مخاطبة  النفس ومشاعرها السلبية التي صورها الشاعر في النص على أنها أزهار سامة يخاطبها:

” أيتها الأزهار السامة

التي قطفناها من كل حروبنا الخاسرة

اطلعي من هاته القلوب الحزينة

من كل النوافذ المشرعة للهباء

من فم النادل

وابدئي قتلنا

واحدا واحدا ” (50)

المعرفة كتاب مفتوج لا يغلق حتى يطبق الإنسان جفنيه عنوة لا بمشيئته، المعرفة البشرية قراءة وتجربة في الحياة ومشاهدات محفورة بالتفكر، بالتأمل، بالتفاعل الذي لا مفر منه، لكن التفاعل المعرفي يكون أرقي من التفاعل الغريزي البحت.هكذا تفعل المقروئية الثقافية الأفاعيل حتى تتحول المخيلة إلى خلية نحل تمارس فعل التخييل النشط بلا هوادة في الفضاء الحميمي/ غرفة البيت، الذي يلوذ به الإنسان طلبا لقسط من الراحة لإزالة تعب كدح الشارع :

” أسمع عصفورا غامضا ينشد تحت الوسادة

وخيالة يقتربون ببطء

وأجراس قطيع من الماعز

وفي فضاء الغرفة

أحس نداوة عشب

وخرير الماء.” ‘ (55)

يوم الأحد يصلح لاستضافة الكاتب الفرنسي الوجودي” ألبير كامو” وآخرين إلى عشاء، تكون وجبة العشاء كلمات ألبير ذاته وكلمات الآخرين أيضا، بيد أن القارئ يستضيف هؤلاء بذهنه المتلقي وحواسه المنفعلة كجمرات الدهشة، وسيكون لائقا بالضيوف الكبار تخصيص يوم الأحد لهذا الغرض النبيل حتى لا يكون مضيعة للوقت في أشياء اعتادها الناس حد الفراغ.

يستحضر عبد الجواد صاحب  الروايات الغريبة التي حملت اسمه ” فرانز كافكا’، هذا النمساوي الذي ربته ” فيينا ” صغيرا، وأطلقته في البراري المعاصرة حتى يكتب عن ” المسخ” الذي  يهيم في المدنية الغربية، هكذا في نص ” وحيدان في غابة’:

” أنا وكافكا وحيدين في غابة

ندفع باب بيت قديم

نجد امرأة مخنوقة بالبكاء” (58)

استدعاء الشخصيات الإنسانية يترواح بين استدعاء أسماء من قبيلة الشعراء والأدباء الكونية، إلى استدعاء أقارب كالأب ، واستدعاء الأصدقاء بدون تنصيص على الأسماء ، فالشعر وعاء  تعبيري إنساني جمالي، لا يخلو من الشوق إلى الأحبة ، وهذا الشوق يثمر مخاطبات إلى الآخرين الذين في البال سواء كانوا أقارب بيولوجيين ( الأب) أو أقارب مجازيين (الشعراء والأدباء).

إن كتاب ” ضحكات الكركي” احتفاء شعري بالحياة بتفاصيلها وكوابيسها وضراوتها ومتعها ولذائذها المنفلتة من الضوابط ، وأيضا بقلقها الوجودي الذي لا مفر من العيش معه تحت سقف واحد (السماء) وعلى مهاد واحد ( هذه الأرض).

اترك رد